علي عبد الأمير إن كنت عراقيا وأعياك الطريق الى الأمل، وأضناك الانتظار وحاصرتك الغربة، فعليك التزود بموسيقى تقيك الوقوع في الرمال المتحركة لليأس، ومن بين أنغام تلك الموسيقى القادرة على ابقاء فسحة الأمل فيك، أنغام تتضمنها إسطوانة جديدة لعازف القانون والمؤلف الموسيقي فرات حسين قدوري. بنغمة أصفى وأكثر خبرة ونضجا تأتي اسطوانة "الجنائن المعلقة"، حيث ألحان تنفتح على تجارب إنسانية حياتية وثقافية وإضاءات تاريخية وأسطورية، لكنها وإن اتسعت لا تخرج من مدار شخصي يتخذ من "القانون" مركزا نغميا يتصل بآلات وتجارب موسيقية عراقية وعربية وانسانية أوسع، مرة بروح المداعبة ومرات بروح الحوار والإتصال الثقافي العميق.
مؤلفات فرات قدوري الجديدة، بعد أعمال موسيقية انفرادية ومشتركة، تستلهم خزينها الروحي الرافديني فتصبح رقيقة تارة وتتشظى بين الآلات الموسيقية والأصوات الغنائية التعبيرية تارة أخرى، كي تصور البعد الاسطوري للشقاء الذي يحياه الإنسان العراقي اليوم، لكن دون اغلاق باب الأمل، فالموسيقى رسالة ينقلها فرات قدوري من ارجاء بلاده المعذبة الى فضاء إنساني رحيب. في اسطوانته الجديدة (يوم صدرت العام 2009).. يوميات شخصية، فيحضر الأب الاسم العميق في الموسيقى العراقية المعاصرة مؤلفا وعازفا وباحثا فيهدي الأبن اسطوانته إليه، مثلما تحضر حكمة تاريخ وأسطورة فضلا عن آمال تكاد تختنق لكنها لا تعرف اليأس. وكل هذا يأتي عبر انتماء موسيقي عماده النغم العراقي والعربي المنفتح على تجارب الموسيقى المعاصرة في "الجاز" و"الفيوزن". أناشيد الموروث الرافديني موسيقى فرات قدوري في "الجنائن المعلقة"، أناشيد لعاشقين ومنفيين وحالمين قرروا الوفاء الأبدي للحب، وهي وإن جاءت كتجسيد لشخصيات تاريخية عراقية في حكايات موسيقية، الا انها لم تقع ضمن إطار "تصويري" تقليدي حتى وان كتبت بإسلوب الموسيقى التصويرية، والنشيد الأول هو "حكاية سمير أميس"، المرأة الآلهة التي رعاها سرب من الحمام بعد ولادتها، فأخلصت للريش والأجنحة بعد موتها، فصارت حمامة. هي ملكة آشور وفارس وأرمينيا والهند ومصر، وإكراما لفتنتها بنيت نينوى. السؤال هنا كيف يمكن تكثيف الحكاية هذه بإسطوريتها وواقعيتها الى نشيد أو نغم موسيقي؟ والجواب جاء صريحا من فرات قدوري، فهو استعان بمزيج من الايقاعات واللعب الرقيق على آلة القانون، والآهات والصوت الجميل المجروح في نداءاته لوسيم فارس المستغرق في إتصال حميم مع فنون الأداء في المقام العراقي، الغناء والقانون وآلة "الجوزة" التي لعب عليها هنا محمد أمين، صوّرت المسار الإنساني لسميرأميس، فيما الإيقاعات والآهات جسدت البعد الأسطوري، ولم يكن قدوري الا مخلصا لفكرة ان الموسيقى فن إنساني و روحي خالص، فأبقى المسار الإنساني لحكاية الملكة، خاتمة شجية ورقيقة لمقطوعته. من "عشتار" الى "الشناشيل البغدادية" ولان العراق هذا المزيج النادر من الواقعي والخيالي، ولأنه هذا الحدث الضارب في جموحه حدا غير معقول، كان من الطبيعي ان ينتقل فرات قدوري من مقطوعته الثانية "غزل عشتار" الى "شناشيل بغدادية"، ففي مقطوعته التي تصور عشتار أو عشتروت، آلهة الحب والحرب التي سمّاها السومريون إينانا، والإغريق أفردويت، إبنة الإله سين إله القمر، تلعب آلة القانون (الحب) قليلا قبل ان تبدأ الإيقاعات والأصوات البشرية (الحرب) بالتناوب مع الصوت الرقيق للقانون المنفرد، في تصوير متناسق لذلك المزيج المتنافر في عشتار: رمز الحب والحرب في آن، إبنة الوركاء عاصمة بلاد سومر ومركز حضارة العالم القديم، التي انبثقت سيرة عشق من لذة ونار، فأغوت جلجامش وأسرت ديموزي (تموز). ووفق هذا الاسلوب التركيبي المتداخل في أبعاده الزمنية والدلالية، يصل قدوري الى مقطوعته الثالثة: "شناشيل بغدادية"، فاذا كانت بغداد في عصرها الذهبي قد صارت إشارة الى كل معنى له علاقة بالتطور والإزدهار، فيقال لأي مكان بانه "تبغدد"، فان الزمن في بابل "تبغدد" فأقام إعجوبة من أعاجيبه "الجنائن المعلقة"، وفي بغداد تجددت أسطورة بابل في الظلال والورود والقصائد والنساء الجميلات فكانت "الشناشيل"، التي صوّرها قدوري عبر جمل لحنية تتصل عميقا بفن موسيقي "متبغدد" هو المقام العراقي. جاز في "ليلة شهرزاد" والسياب يبعث موسيقيا ان الانفتاح الموسيقي الذي ميّز نتاج فرات قدوري منذ اتصاله الواسع مع تجارب موسيقية عالمية خلال اكثر من عقد، انعكس في اتصال مع موسيقى الجاز التي حضرت في مقطوعته "ليلة شهرزاد"، وهو اتصال لم يكن عبثا، فشهرزاد صاحبة الحكايات التي أوقفت السفاح لسحرها وفتنتها عن ممارسة شهوانيته في القتل، كانت تحتاج في تصويرها شكلا موسيقيا ينفتح على بعد سردي(حكائي)، ولا شكل يمكنه هذا مثل موسيقى الجاز التي لطالما أراها في حريتها "نثر الموسيقى"، مثلما كانت "قصيدة النثر" لعبا في الشعر أوسع من الوزن. واتصالا مع هذا المنحى جاءت مقطوعة ستفخر بها الموسيقى العراقية المعاصرة، هي مقطوعة "انشودة المطر.. لذكرى السياب" التي كتبها قدوري وفيها بعث صاحب "غريب على الخليج" موسيقيا، فثمة الناي بأداء مرهف من وسيم خصاف، كخيار موفق لتصوير نحول الشاعر وفردانيته واحساسه العميق بالوحشة والغربة، ذلك الذي انشد لبلاده انها "غابة نخيل ساعة السحر" ومضى غريبا، مثلما كانت آلة القانون تصور مشاعر الحنين، وما السياب إلاّ مزيج متفجر من الغربة والحنين، المزيج الموسيقي والدلالي هذا يتواصل في الدقيقة الأخيرة من المقطوعة منسجما لينقطع فجأة الى.. الصمت، ألم يكن السياب بموته صمتا "احتجاجيا"؟ الأسطورة في باحة المنزل الشخصي وبما ان عمله الجديد الذي تولى لا كتابته وحسب، بل توزيعه موسيقيا، هو كالعراقي مزيج صريح من الصخب والرقة، من الهدوء الخشونة، من الحب والكراهية، فان فرات قدوري ينتقل من اطار الحكايات الاسطورية والشخصيات التاريخية الى باحة منزله الشخصي فيوزع بمهارة استنادا الى أجواء الألحان اللاتينية المتدفقة مقطوعته "ديما الغيمة الوردية" في تصوير لطفلته، فجعلها مقطوعة تحتفل بالحياة عبر فساتين ترقص "سالسا" وترانيم وايقاعات (لعبها زيد هشام) كالمطر اللاتيني الدافئ. ومن باحة المنزل الشخصي ايضا جاءت مقطوعة "ما تكتبه الأقدار" التي أهداها الى أمه وأبيه، لنبع في أياديهما، للحياة في بيت ظليل، للتنويمات، لليالي الصبر والانتظار، للأمنيات وهي تورق تحت شجرتهما ألحانا و"قانونا" يتذكرهما بعد الرحيل ويبكي. نعم كان "قانون" فرات يبكي وفاء وإحساسا عميقا بالغربة، مثلما كان يبدع أنغامه وفاء ابديا للحب. ان اسطوانة " الجنائن المعلقة" لفرات قدوري، تشكل ملامح نضج في تجربة العازف والمؤلف الذي حرص في تنفيذ عمله الجديد، على الافادة من قدرات موسيقيين عراقيين امثال زيد شهاب الذي لعب دورا مهما في نجاح العمل اذ قام بتنفيذه على "الكيبورد" واشترك في التوزيع الموسيقي ايضا، وشيراك تاتاسيان على الغيتار ومجموعة الكمانات التي ضمت ستة عازفين من ابرزهم احد اسماء التأليف والعزف العراقية المهمة: الفنان خالد محمد علي . وكان قدوري قد اصدر في عمّان العام 1998 اسطوانة حملت عنوان "قانون بين النهرين" اكد فيها مستوى البراعة في العزف على القانون ومقدرة في التأليف لهذه الالة العربية والشرقية الرقيقة، ثم وفي ما يشبه المغامرة حين زج بـ"القانون" في مقطوعات يحاول فيها تأكيد مكانة الآلة وانغامها حين تحاور الات اخرى وانغام تأتي من بيئات بعيدة، بيئة البحر الكاريبي والايقاعات اللاتينية، اصدر اسطوانة "نداء الروح"، وجاءت اقامته في بلجيكا والمانيا ثم في الامارات فرصة للاتصال مع ثقافات وبيئات جديدة للمعرفة والتلقي وتراكم المعرفة والخبرات الانسانية، فصار علامة حاضرة في غير اكثر من مهرجان موسيقي عربي ودولي. والفنان قدوري من مواليد بغداد عام 1970 وهو عضو فرقة "البيارق" التي شكلها الراحل منير بشير، والذي يتذكره تلميذه بطريقة راقية في اسطواناته وحفلاته فيعزف له مقطوعته الشهيرة "أم سعد". وتخرج فرات حسين قدوري عام 1986 من مدرسة "الموسيقى والباليه" ومن معهد الدراسات الموسيقية عام 1992 واشترك في عدد من المهرجانات الفنية العربية مثل بابل وجرش وعزف في مدن القاهرة، باريس، برلين، بروكسل، دبي وعمّان. *المقالة تتضمن فقرات كتبها علي عبد الأمير كمقدمات تعريفية بالمقطوعات في اسطوانة "الجنائن المعلقة".
|