إستعادات الحنين الموسيقية: 200 عام على وفاته...إحتفاء بأماديوس

تاريخ النشر       24/07/2010 06:00 AM


علي عبد الأمير

نشطت الأوساط الثقافية والموسيقية خلال هذا العام في الإحتفال بالذكرى 200 لوفاة – ولفجانج أماديوس موتسارت.
في ليلة من شتاء عام 1823 تعالت صرخة من رجل مسن, مشوش الذهن, تلك الصرخة, روّعت فيينا: [موتسارت إصفح عن قاتلك, إنني أعترف بقتلك يا موتسارت].
حين هدأ هذا الرجل, حاول الإنتحار قاذفاً بنفسه الى الشارع المُغطى بالثلج ومثيراً بذلك فزعاً أرعب المستشفى الخاص الذي ينزل فيه.
ولأسابيع عديدة ظل هذا الرجل المسن محجوراً عليه في غرفة خصوصية, حتى زاره كاهن شاب وسمع (اعترافه) بالسبب الذي دعاه للإنتحار.
ان الرجل المرتعش ما هو إلا "سالييري" الموسيقي الذي عاصره (موتسارت), و "سالييري" في مراجعة تاريخية نجده القادم ذات يوم من قرية إيطالية صغيرة وقد شغلته فكرة مقدسة هي التقرب الى الله عن طريق الموسيقى, فقطع على نفسه عهداً في إحدى الكنائس, بأن يمنح كل ما لديه من صدق وعفة وبراعة صنعة, فيما لو حباه الله بإلهام موسيقي ممتاز وشهرة تليق بمؤلف كبير ... فوصل "سالييري" الى فيينا, حيث عباقرة الموسيقى ثم أصبح لاحقاً, المؤلف الموسيقي المُعتمد في بلاط الإمبراطور "جوزيف الثاني", ذلك المُحب للموسيقى وشقيق "ماري إنطوانيت" ملكة فرنسا, غير أن شخصاً ما وصل فيينا عام 1781 وهو في الـ 25 ليغير حياة "سالييري" والى الأبد, انه: ولفجانج أماديوس موتسارت.

في سالزبورغ: العبقرية في سن الخامسة ...
كان موتسارت قد أنهى سنته الخامسة حيث تعالت شهرته وأصبح إسماً يمتد على أفق اوربا بالكامل مما حدا بسالييري الذهاب الى قصر راعي موتسارت وهو رئيس أساقفة سالزبورغ المتغطرس, متلهفاً لرؤية هذه العبقرية الموسيقية وظاهرتها, فقد كتب موتسارت الكونشرتو الأول وهو في سن الرابعة والسيمفونية الأولى في السابعة وأوبرا كاملة في الثانية عشرة ! ومع كل الدهشة والعجب اللذين خامرا سالييري, إلا انه كان يتساءل في داخله: تُرى هل الموهبة مكتوبة على وجهه حقاً؟
وقبيل لحظات من الحفلة التي سيقدم موتسارت خلالها, كان سالييري يجوب متمهلاً بين الضيوف المتأنقين متعجباً: مَن يكون هذا الموتسارت – الأسطورة؟
وفيما كان يمضي مع تساؤلاته هذه تصاعدت ضربات الموسيقى من الصالون الكبير, إذن هذا هو موتسارت, هذا هو الكريه, الرديء المخيلة, الصبي المهرج, وما هو أسوأ من ذلك, هكذا حدد سالييري دوافع حقده على هذا العبقري الصغير, فقد كان وبلا جدال يستمع الى أروع ما سمع طوال حياته, وظل يتساءل متعجِّباً: لِمَ منح الله هبته لمَن يعرِّضها للدنس والقبح ولم يضعها في سر خادمه الدائب سالييري؟ إصطدم سالييري ثانية بهذا الكائن اليافع عندما إستدعى الإمبراطور موتسارت طالباً منه تقديم أوبرا في ألمانيا (الإختطاف), وفي أسابيع تلت قام موتسارت وبكل سذاجة وبدون تعمد بإهانة سالييري بطرق عدة فقد قام بتحوير عمله (مارش السلامة) الى لحن برّاق, كما انه أغوى طالبة سالييري ومعشوقته السرية, المغنية السوبرانو "كاترينا فاليري" والتي غنّت لاحقاً في العرض الأول لأوبرا (الإختطاف) مع جوق الحريم التركي.


احد اكثر الاعمال شهرة والتي تقارب في ملامحها صورة موتسارت الاصلية
 
ومما ضاعف في (غيرة) سالييري وزاد من جنونه هو إسناد وظيفة معلم الموسيقى لأبناء القصر الإمبراطوري لموتسارت, وما إكتشفه لاحقاً من أسرار جعلته يقف ذاهلاً أمام عبقرية موتسارت, فقد حملت "كونستانزي" زوجة موتسارت البلهاء, بعضاً من أوراق التدوين الموسيقي لزوجها وحملتها الى (سالييري) سائلة إيّاه النصائح والإرشاد لعمل زوجها, أطال سالييري التمعن في تلك المدونات فوجدها, متنوعة, مبتكرة وإعتراه الذهول التام حين عرف إنها النسخ الأولى والوحيدة لأعمال موتسارت, إنها لا تحوي على تصحيح أو إعادة ! إذن فالموسيقى تُكتب في ذهن موتسارت, كما لو أن هناك وحياً يمليها عليه مباشرة وفي هول المفاجأة تبلور عند سالييري قرار بتحطيم موتسارت !!
ضغائن وأحقاد ...
إستخدم سالييري فتاة تُدعى (لورل) وقدّمها كهدية من معجب مجهول, للعمل في بيت موتسارت الذي كان يعاني العَوَز, ولكنها أتت للإستطلاع عن أسرار الموسيقي, ففي ذات حفلة كان يقدمها موتسارت في الهواء الطلق, أدخلت (لورل) سيدها سالييري الى غرفة إكتشف فيها النسخة الأصلية من أوبرا "زواج فيجارو", وبما أن كتابتها تستدعي موافقة الإمبراطور, فقد سارع سالييري بأوراقها الى البلاط, إستدعي موتسارت للمثول أمام الإمبراطور الذي بادره قائلاً: [ إنها مسرحية رديئة, تثير الضغائن بين الطبقات, وفي فرنسا يثير هذا الموضوع المرارة, فقد أخبرتني شقيقتي العزيزة "ماري إنطوانيت" بأنها تحس بالرعب من شعبها ومواطنيها – اُعدمت بالمقصلة لاحقاً في الثورة الفرنسية].

غير أن موتسارت حاول جاهداً إستثارة حماس الإمبراطور كمرحلة لإقناعه بتغيير رأيه في العمل, ومن خلال الزمرة الإيطالية في البلاط حاول سالييري (الإيطالي الأصل) إلحاق أكبر نسبة من التخريب في (زواج فيجارو), فقد اوقفت بعد حفلتها التاسعة ليقع بعدها موتسارت في حالة فقر شديد حملت إليه المرض الذي تضاعف لإفراطه في الشراب, ومما بعث على الضيق عند موتسارت هو ثناء الإمبراطور على أوبرا كتبها هي (AXUR) المنسية الآن – واصفها بأفضل أوبرا كُتبت حتى ذلك الوقت.
عميقاً نحو موسيقى فذة
لم تمنع الكارثة التي حلًت بموتسارت حين توفي والده من إستغراقه العميق في عمله الأوبرالي التالي (دون جوان) غير أن أحزانه تضاعفت حين كان (شبح) والده يظهر له مثيراً الإحساس بالذنب وفي الوقت ذاته إنشغل سالييري بمتابعة عمل موتسارت محاولاً إيجاد خطأً ما يشهره ثانية كسلاح ضده, مضى كل ذلك عبثاً أمام إستغراق موتسارت في إنجاز (دون جوان), الأوبرا التي ظهرت بأبرع ما يمكن, حتى أن سالييري ذاته قال فيها: (كم كنت أتمنى وفي كل مرة أحضر فيها القاعة أن أكون الوحيد الذي يستمع لهذه الموسيقى؟!).
ضغائن سالييري قادته ثانية لإلحاق الأذى بموتسارت, فقد قرر فجأة أن ينهي حياته فإرتدى قناعاً وذهب الى منزل موتسارت لمنحه تفويضاً من (نصير مجهول) لكتابة (قداس ميت) وكان ذلك مُخططاً للحصول على القداس ومن ثم تحويره بطريقة خاصة وتقديمه في مأتم موتسارت – الخائر القِوى الآن – تعبيراً من سالييري عن حزنه الجم بوفاة (صديقه) موتسارت !.
حين بدأ موتسارت كتابة (القداس) كان يواظب على قيادة الأوركسترا وهي تعزف موسيقاه في (المزمار السحري) وهنا بدأت الملامح الأخيرة لحياته بالوضوح, ففي ذات مرة خارت قِواه في منتصف العرض المسرحي لـ (المزمار السحري), وحمله سالييري الى المنزل إذن فقد أزفت الساعة لتنفيذ المخطط الشيطاني, لكن ما الذي يفعله سالييري بالقداس غير المكتمل؟ - تلك اللحظة عادت زوجة موتسارت لتكشف سالييري المضطرب أمام جسد زوجها الواهن وأوراق موسيقاه المبعثرة.
 


موتسارت على فراش الموت لكنه يملي على سالييري عملهه العبقري : قداس جنائزي
 
تُرى هل كان المسلك اللاأخلاقي لسالييري قاد موتسارت المُنهك الى قبر كبير حين دفع به جراء
الضغائن والأحقاد الى المزيد من إنهاك الجسد والروح معاً؟
عربة وبعض أناس وشارع حجري مبلل وتابوت موتسارت كان هذا هو المشهد الأخير في سيرة مدهشة لموسيقي وصفت (الموسوعة البريطانية) موته بأنه: خزي للإمبراطور, للبلاط, لعامة الناس, للمجتمع نفسه.
ما الذي تبقّى؟
في زاوية معتمة من مستشفى المجانين كان سالييري يكمل إعترافه للكاهن الشاب: [إن القدر الإلهي دمّر موتسارت وساهم بقدر متواضع في إعلاء مجده, مات موتسارت وتركني أتعذب لمدة 32 عاماً أراقب فيها موسيقاي تهمد وتنقرض فيما يتصاعد إبداع موتسارت ويغدو سرمدياُ].
محض سخرية كانت نهاية سالييري – ففي اللقطة الأخيرة للفلم السينمائي (أماديوس) تصاعدت قهقهة من موتسارت حتى تصبح الضحكة العالية الملازمة له وتأتي على نهاية الفيلم.
 

* نشرت في صحيفة "القادسية" 15 تشرين الأول 1991



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM