علي عبد الأمير
أهو جدير بالتمعن اختيار عنوان من مبدع؟ ووضعه عنواناً لمقالة تسجل انطباعات عن عمل آخر له ... وقد يكون ذلك ممكناً حين نجد ان نصوص المبدع ذاته تتمتع بقدرة حوار واستجابة حميمة تجدها عند المتلقي ... وهكذا هي نصوص الشاعر "خيري منصور" اقتناص أسئلة وشواهد, صياغات كونية وتسجيل لوقائع تبتعد عن الهامش وتطمح بالصعود مع جوهرها الى متن المسألة .. وهكذا فإن مجموعته الشعرية "التيه: وخنجر يسرق شكل البلاد" والعنوان يشير لقصيدتين طويلتين سبق لمجلة الأقلام نشرهما, وأجد في (احزان الفصل الخامس) عنواناً مناسباً لتسجيل انطباعي عن احداهما (التيه) .. تُرى أي فصل هذا الخامس؟ هي فصول اربعة فكيف بالخامس إذاً؟ انه فصل الفصول تقويم لأيام هاربة من تنظيم الطقس في الفصول الأربعة, وهو تحصيل حاصل تزاوج الأيام بكل دلالاتها, انه فصل مُفترض قدر ما هو فصل محسوس وكائن, انه الأقرب الى المُتخيل والذاتي وهي احزانه الأقرب لذات المبدع ورؤاه المكثفة انه يمتزج بعنوان آخر يقترب في الدلالة, وكتب الشاعر تحت تأثيره (اليوم الثامن في الاسبوع) و (التيه) قصيدة الشاعر المطولة الأولى في ديوانه تفتح سجلها الحواري منذ العنوان الأول, والمدخل الذي تكشفه المعاني والدلالات للتيه, وما هو إلا انقطاع السبل والدرب التي لا توصل, هو المكان والموضع الذي يقترن بعدم الوصول وهو الحالة التي تشتمل على اليأس قدر شمولها عنف المحاولة والبحث عن وسيلة للخروج, والقصيدة نشيد في سِفر البطولة الفلسطينية, انها أيضاً تبتعد عن هذه الإشكالية (الواقعية) حين يرى الشاعر في موضوعتها جوهر المهمة الشعرية بأسرها: (عانيت اشتباكاً حاداً بين هموم نابعة من شَرطي التاريخي الوطني وكان عليّ ان أحسم هذا الإشتباك لصالح اشتباك اكبر, فالهموم متداخلة تماماً بعضها مشروط بالآخر وممتزج به)(1).
الشعر عند خيري منصور ليس تهويماً في الفراغ ... ولا محاولة تجريدية في الجمال
وهذه الإضاءة يكشف معها الشاعر رؤيته تجد في (التيه) مقاربة تطبيقية لها, فهي أكثر من مزاوجة بين الفردي والجماعي وأعمق من مهارة استخدام الرمز الأسطوري والملحمي الذي تجده في أكثر من مقطع في القصيدة, انها ترتفع عن الواقعي دون الإنقطاع عنه: (أنا أحارب طواحين ليست هوائية, بل طواحين أجساد وحضارات وشعوب)(2). والقصيدة تنجز مهمتها الشعرية لا عبر شكلها كقصيدة مطولة, بل في ذلك النمو والتفاعل المتسلسل للمقاطع, نعم هناك شروح ووقفات تستنجد بالهامش لكنها لم تبطيء فعل النمو والديناميكية في الإنجاز تأتي من اسلوب القفز على الزمن واستخدام التقطيع الصوري والثنائيات والتبسيط الإجرائي لغموض الرمز الملحمي والتاريخي (الطوفان – الحمامة) و (رحلة البحث المشرقية عن ولادة المُنقذ), والقصيدة بذلك حققت غرضها (الملحمي) الخاص حين نهضت بواحدة من أكثر فصول وجودنا العربي وفلسطين, أجيال تتعاقب وملحمة إنسان لا يتعب من الحرية: (الإغتراب, تطابقت دوائره كلها, بدءاً من إغتراب زماني حتى الإغتراب بمعناه الجغرافي القسري, لقد ادركت ان الفلسطيني الذي يملأ هويته ذو مسؤوليات اخلاقية باهظة من أجل الجميع, فهو محترف موت ونفي وإغتراب وله مع الحرية (سفر) لا ينتهي وهو تلميذ التاريخ الفاجع الذي أهّلته مجازره ومآزقه الفاضحة لعصره لأن يصبح معلماً)(3). كنا إذا مر النسيم ... نسيم بحرك نقرأ الصحراء فيه كنا إذا امتدت إلينا خلسة كفاك نقرأ طالعاً لا نرتجيه ... ومن تراتيل إنشادية يتطلبها المدخل الى المشهد كهذه نحو التقاطعات ينتزعها الشاعر من حقائق طبيعية لا من أجل أنسنتها حسب, بل لقدرتها على القيام بدور مؤثرات المشهد ذاته: الطير متعبة, تقاسم بعضها الخفقات وجمالية صاعدة كهذه لا تتفق مع ما تلاها من (شروح) تُثقل على إيقاع القصيدة على الرغم من قدرة الشاعر على تجاوز ذلك بالكثير والكثير من المفاجأة الشعرية أوَ ليس الشعر مُنجزاً يتلاعب بإحتمال الدهشة؟: سنقول للطير المهاجر ليس فجراً ما ترى سنقول: هذا الفجر أحلك من مساء و (خفقة) الطير الأولى, تنجز عندنا التأثير كاملاً بعد هذا المقطع, فهي محاولة الى هذه الرحلة وهي اقرب للضياع .. فالفجر أحلك من مساء! وصورة كهذه يتبعها الشاعر بأخرى وبتباين (ضوئي) أعمق: حبل على خشب وذاكرة لغاب وهذه صورة تُنبيء بما هو معتم وأخرس, صورة مفصلة للذاكرة لكنها تصل بإشارات تخرج من أقفالها: حبل على خشب كل شيء يستغيث ولا جواب وفي قصيدة مهمة كـ (التيه) ... تلعب قضية الزمن بقوة مؤثرة فإنتماء الخطاب الشعري للراهن من الوقائع والتفاصيل لم يكن حائلاً نحو امتدادات زمنية اخرى فثمة إسترجاعات وإيماءات مستقبلية تجدد رموزها دائماً الإستعارة من رموز التراث والجو الشعبي (استخدام مطالع الأغنيات والحكايا وما إليه من الموروث) وذلك نجد أكثر من مبرر منطقي له, فالقصيدة أصلاً هي تنقيب حي في وقائع شعب ورؤية لازمته: سلمى الطويلة أم خال في الجبين ليلى التي ضاعت خواتمها الصغيرة في العجين ... ومن تلك (الآثارية) في الموروث الى إستبيان الوقائع الجديدة إستشراف مستقبلي يخرج من بين طواحين الأزمة, انه اشتباك الحقائق والقفز على النتائج ويظل هناك موعد لقادمين ومن أين يأتي القادمون؟ إسترجاعات طفولة وهي لوفرة الأحداث فيها وطابعها الدراماتيكي والمأساوي: (الأرض للفلسطينيين بعامة ولي بخاصة توغل جسدي في العافية) وفي موضع آخر يقول: (لم يكن الطفل قد قرأ بعد شيئاً من السبي أو التيه فقُدر له ان يكتبها)(4). للقادمين من الجنوب للقادمين كما الهبوب للقادمين من الشمال للقادمين كما المُحال انهم كواقعة توضأت بالمستحيل وعودتهم ستكون بالتأكيد تطوافاً خارج الممكن والمتوقع ... وكما قلت في موضع سابق من المقالة, يلجأ الشاعر الى إستخدام التقطيع الصوري والزمني حتى, فمن لحظة راهنة الى ... كم واحداً يبقى إذا نقص التراب؟ أو: كم ألف عصفور يعادل طائرة؟ وهذه التساؤلات على حيويتها كصدق للطفولة هي تضج بالشعر أيضاً فهنا احراجات وإرباكات لصورة تتراكم, ذاكرة تخزن وقائع وتهدأ لملامح الصورة الأخيرة ... ويظل الشاعر يدعم رؤاه بالمزيد من قوة النفاذ لصالح الفكرة, فكرة بسيطة ولكنها شائكة محاولة انتزاع شعب من محور حياته ومحاولة انتزاع وطن: يا أيها العصفور يا نحن التي طارت وباضت في السحب وطناً ... الشعر عند خيري منصور ليس تهويماً في الفراغ ... ولا محاولة تجريدية في الجمال, والنص عنده ليس أبيض ويظل عنده قريباً تفسيره بذلك الإحساس المصاحب بالقشعريرة: الآن تنفصل الخريطة عن مسامير الجدار الآن تنفصل الخطوط عن المدار الآن تشتبك البحار مع البحار ان ذلك الإحساس يدعمه الشاعر بقوة الرؤيا, وهو إضافة الجوهر بما يجعل لشعره تأثيراً يكتسب ماديته وهنا صعود للشعر في فضاء لم يرتض السكون والصورة ظلت حية وتثير أكثر من حوار وثمة ولوج الى كينونة الأشياء وحتى الإلتقاطات السريعة كأن تدعم حيوية النص وتقريب اللغة من حدة وسخونة الحدث: قالت اذاعة اورشليم: "قصف الصبي دورية فأصاب ساق مجند وأصاب آخر بالكآبة" ولأن الرؤيا حاضرة وبكثافة في (التيه) ولأنها أيضاً مبرر الوعي في قصيدة (خيري منصور) دائماً لن نجد غرابة في إنتهاء القصيدة بمقطع يبدأ من نبوءة كهذه: وتمر نجمة فنمد أذرعنا وتسقط في الأكف حمامة ونبوءة الشعر لا تجادل في اليأس, هي منه قدر ابتعادها عن ظلامية الحجرية, فهناك أكثر من محاولة لتفجير سكونه القانط: الخيط في القدم الصغيرة والرسالة ضائعة ونفتش الريش المعفّر بالهديل ... ومن زخم التفاصيل ومؤشرات كان يتوخى فيها الشاعر رسماً لمؤثرات المشهد الى هذا التكثيف على الرغم من تعددية الصورة وإنثيالات إنطبعاتها إلا انها حافظت على وحدة مشاعرها ومثابرتها في الإتصال مع المتلقي عبر استنطاق عذوبة في رؤية مشهد حزين: ولمرة أخرى نفتش ريشها عنواننا: ريح و تيه والمرسل الخيمة ...
هوامش 1-2-3-4: لقاء مع الشاعر في مجلة (حراس الوطن) أيلول 1986 أجراه الشاعر عدنان الصائغ....
*نشرت في صحيفة "القادسية" 6-11-1987
|