علي عبد الأمير
(جيل بلا نقّاد) ... هذا ما انتهت اليه مداخلات شعراء الجيل السبعيني وهو المدخل الذي اتفق عليه أغلب الشعراء حين عاينوا تجربتهم وإستقرأوا مساراتها وقيمتها الفنية وجملة تأثيراتها على خارطة الشعر العراقي المعاصر ... ان ذلك ليقترب في لحظة الرؤية المتعجلة من الحقيقة. فالشعراء الذين عدوا جيلاً ثالثاً مضى على تلك الخارطة, لم يعملوا بشأن خارج جدل التطور الحياتي وقوانين التجدد, كان لا بد من إشارة تعلن مجيئهم وكان لا بد من قصيدة تطمح بالوثوب الى أفق تراه يتجدد ويومض بسحر يظل دائماً يستوجب الكشف ونقطة إبتدائهم تلك ما كانت تستوجب كمية الرفض التي جوبهت بها لولا تلك القطيعة غير المقنعة التي أعلنها بعض الشعراء عن الخبرة والمُنجز الشعري للأجيال السابقة وتلك إجمالاً كانت وقفة تفتقر للحكمة وتنزع نحو البسة تبدو فضفاضة على من حاول التمظهر بها! فالإنجاز الحقيقي ظل بعيداً عن ذلك التجاوز الذي افترضه الجيل وظلت إنفعالات القصيدة الجديدة لا بنيتها تستهلك وقتاً كان يضيع دون تحقيق جدوى الإضافة والإنتقالة ووعودهما. في خضم اتصال مربك مع جيلين (الروّاد والستينات) افتقد السبعينيون لوقفة النقد الجاد, وثمة الكثير من الإزدراء كان بانتظارهم غير ان ذلك وجد عند الشعراء وقفة بدأت تجد مساراتها السليمة, فعني الجيل بتدعيم وسائله والمضي بالتجربة الى الآخر, بعيداً عن المماحكة وما تسببه من نزف لجهد وافر ... هدأت لاحقاً كل الإعلانات ووسع الجيل من اتصاله وإغتنى بالعمق المعرفي الذي يمثله الشعر. ان رسوخ التجربة يحيل الرائي النقدي الى التعامل معها بما يفترضه بداهة وجوده الفكري, وهكذا وجدت تجربة الجيل السبعيني بعض القراءات ومن ثم الأفكار النقدية الوصفية, وكان الظهور المتتابع لمقالات الناقد "حاتم الصكر" التي عنيت بقراءة انجاز ابرز شعراء الجيل, مؤشراً طيباً لحضور نقدي يوطد اتصاله مع نصوص الشعراء مأخوذاً برغبة معرفية يفترضها الوجود النقدي بأبسط أشكاله, ان المقالات تلك تضمنها كتاب (مواجهات الصوت القادم – دراسات في شعر السبعينات – دار الشؤون الثقافية العامة كتاب الطليعة الأدبية التاسع 1986), الى جانب مداخل لقراءة تجربة الجيل ومقالات اخرى نقبت بجهد واضح في المكتبة السبعينية منعطفة على آخر انماطها في التقديم الشعري (كتاب – الموجة الجديدة – الشعري) وضم الكتاب أيضاً عدداً من النصوص لشعراء إستأثروا بالتطبيقات مفترضاً فيهم الناقد خير من يمثل الجيل ... في المدخل الأول الذي إبتدأ به الكتاب كانت هناك محاور عدة يرى فيها الناقد (ما يصلح حقاً للمعيار النقدي)(ص 12). وفي محور التراث: رؤية الشعراء ام رؤية سواهم؟ ثبت الناقد للشعراء ميزة ان أغلبهم (ينطلقون من احترام تام للتراث بسبب انتمائهم الى الفكر العربي الثوري وارتباطهم بقضايا الإنسان في وطنهم وفهمهم للتحديات التي تجابه المتهم)(ص 12), ويلتقط ضمن هذا المحور اشارة تتجلى في كون الشعراء تعاملوا مع التراث ورموزه اعتماداً على رؤية سابقيهم من الشعراء دون أن تبدو هناك مرجعية ذاتية, فاُحيلت الرموز بذلك والوقائع الى حالة من التداخل افتقدت فيه بعضاً من توهجها ويقول (هي دعوة إذاً للبحث في منابع التراث الصافية وبأدوات بحثهم الخاصة عن أصوات لا أصداء)(ص 14), والمحور الثاني الطفولة: حنين الى طقس مفقود, أرى فيه أفضل المحاور لشمولية مؤشراتها أولاً ولفعلها المؤثر ثانياً, لقد ظلت الطفولة دائماً (مصنعاً) دؤوباً للأحلام عند أغلب الشعراء حتى عرفوا بعضهم بنجاح ما في تصوير عوالم تعكس تنامياً معقولاً مع تجربته الحياتية لا قطعاً حاداً فيها (بعكس إحساسه بشيخوخة الروح المبكرة والعجز عن الإتصال بالعالم إلا من خلال الحلم وإستعادة رؤى الطفولة)(ص 15) وثالث المحاور كان بعنوان (معاناة القصيدة: المسافة بين القدرة والطموح)(ص 16) الذي قدّم فيه الناقد تعريفاً لمعاناة لحظة كتابة القصيدة (لحظة الكتابة امتحان حقيقي للشاعر, ان يختزل مشاعره ويكثفها بشكل يعطي المتلقي صورة مؤثرة عنها)(ص 16).
ان استنتاجات ومؤشرات كهذه على بساطة توحي بها, إلا انها تكتسب اهميتها في كونها أساسيات في فهم العملية الشعرية, وتثبيت الأسس يبقى تقليداً معرفياً قلّ اتصالنا به, وعنوان المحور الرابع كان (الشكل: تردد خجول بين الموروث والحداثة) وفي مكان في الكتاب يسجل الناقد للقصيدة السبعينية ما يلي: (فمن حسنات شعر السيّاب انه لا يلج المغامرات الأسلوبية)(ص 10) وكذلك أيضاً (ان قصيدتهم ما تزال محافظة على الشكل الموروث)(ص 17) ويستدرك الناقد في الجزء الثاني من هذا المحور ليثبت اعتراضاً خفيفاً فهو أكثر ميلاً (للمحافظة على الشكل الموروث) ويشير لضرورة بحث الشعراء الشباب عن (أشكال جديدة تُليق بما يتجدد في أعماق القصيدة من اطروحات)(ص 18), أما المحور الخامس الأكثر إثارة للجدل (ثقافة الشاعر تهمة أم عدة ضرورية) يعرضها الناقد مبشراً بنوع من الإتصال (الصحي) مع الآخر ... (الإتصال يتمثل في الإفادة من خبرة الآخرين والتعرف الى تجاربهم وتوسيع الآفاق دون الإحتذاء الحرفي أو الإنبهار الساذج)(ص 19), ويرى في ذلك تشخيصاً لداء عانت منه العقيدة السبعينية (ضعف الجانب الثقافي فيها) والناقد برز متماسكاً ودقيقاً حين حمّل النقد مسؤولية ذلك الفقر الثقافي لسوء تصوير الأصالة والمعاصرة في كتابات بعض النقّاد. وعن التجربة (الأبعاد الشخصية والتميز المشروع) إنعطف بنا الناقد عبر محوره السادس والأخير وأوضح شيئاً من سذاجة التجربة عند البعض وإختلال الرؤى المتكونة إزاءها عند البعض الآخر, غير ان الجدوى الحقة في إثارة موضوعة كهذه تنبع من سؤال يحمل جوهر المعضلة وهو أي تجربة يعنيها الناقد؟, وأي مستويات تنجح في إقامة اتصال حي معها؟ وما هي أنساق التعبير التي تنجز ذلك؟ كل ذلك إجتازه الناقد بمرور عابر للأسف. في تطبيقات الناقد توسم في المنهج النصي سبيلاً الى إضاءة النصوص التي إختارها وكما قلنا فهي لشعراء يرى فيهم أفضل من يمثل الجيل, وكان الناقد طوال تطبيقاته محترساً وبشدة للبساطة التي يوحي بها المنهج لكنه يظل, وكما أحسب أفضل وسيلة للكشف عن إنجاز الشعراء وأنساقهم الفنية, فالتجربة ذاتها لا تحتمل مناهج مناسبة أفضل من المنهج النصِّي. والناقد حاول بمتعة فنية خاصة إعطاء نتائج أولية للقراءات من خلال إختيار عنوان محمل بالإشارة الموحية فثمة (ذراع إسرافيل القصيرة) عن تجربة (خزعل الماجدي) و (دخان البيت الشعري) عن تجربة (سلام كاظم) و (ظل وردة البحر) عن تجربة (كمال سبتي) و (زهرة الفقراء) عن تجربة (جواد الحطاب) والناقد كما بدا لي إستحضر كامل عدته ومعاييره حين تصدّى لنصوص وتجارب الشعراء, (الماجدي, الجيزاني, سلام كاظم, الحطاب وكمال سبتي)؟؟؟؟؟ في حالة اخرى من (التساهل) النقدي في قراءته لتجارب شعراء آخرين وذلك قد يقودنا الى إقامة مداخلة أخرى مع الموضوع في مناسبة ما. والكتاب لأنه أفضل ما كُتب عن شعر السبعينات بقدر ما يظل حميماً فإنه يظل صادقاً, فملاحقه التالية ومنها (في المكتبة السبعينية) التي تشكل ما يشبه الببلوغرافيا الحية, سجلت نهجاً طيباً في التعامل الحي دون الإدعاء حتى بأفضلية كهذه وذلك على ما أراه قد تطلّب من الناقد تجرداً وإنغماساً في حدود الإخلاص للمهمة وذلك يحمل من المسؤولية والرصانة الكثير, وتبقى أكثر من إشارة تكتسب حضورها فالناقد الأستاذ (حاتم الصكر) يقف على أرضية تشترك بين النقد وإبداع النص الشعري, فهو في صورته الأخرى التي أحب, شاعر له مرافيء المدن البعيدة 1975 – و طرقات بين الطفولة والبحر 1980 وتشخيصاته للنص لم تبتعد عن تفاصيل (لحظة كتابة القصيدة) ومتعتها التي أشار اليها في أحد محاور دراسته, لذا فان الكتاب عموماً استحضر ذلك الحوار الممتع بين النقد والنص الإبداعي, ومنه ربحنا متسعاً لجوانب من العقيدة السبعينية (التي أضاعت شطراً من عمرها في لعبة التمرد والتجاوز ثم راحت تنفق الشطر المتبقي في لصق (عقلانية) تتكيء على مذاهب فلسفية وجمالية, أغلبها غيبي, ذرائعي يتناقض والوضع الحضاري للشعر المستقبلي وما يجب ان تكون عليه القصيدة الحديثة)(ص 19).
* قراءة في كتاب الناقد حاتم الصكر نشرت في صحيفة "القادسية" 15-3-1988
|