فرانكو باتياتو: صاحب "أوبرا جلجامش" في بغداد 1992

تاريخ النشر       12/07/2010 06:00 AM


علي عبد الأمير*

قدّم الفنان الموسيقي الإيطالي فرانكو باتياتو أمسية ناجحة في المسرح الوطني(1) وفي ضيافة الفرقة السيمفونية العراقية. أمسية أعطت الكثير وأوحت بالكثير أيضاً ... وكانت بادرة رائعة من هذا الموسيقي الإيطالي في تحدي الحصار عبر لغة، وصفها في حديث مع كاتب السطور عقب حفله الأنيق،  بكونها "لغة الفن والحضارة".

اختراق العزلة

باتياتو المعروف على مدى واسع في أوروبا وشمال أفريقيا، يعكس في عملين موسيقيين حديثين فهماً متقدماً للموسيقى كونها واحدة من عناصر الإتصال الثقافي الحي، ففي أوبراه الضخمة والتي حملت عنوان مُستمد من (ملحمة كلكامش) الملحمة الرافدينية المعروفة والمُقدمة من على أحد مسارح روما في حزيران من هذا العام والمنقولة عبر الأقمار الصناعية الى أغلب البلدان الأوروبية، نجد في تلك الأوبرا وحسبما أخبرنا السيدان (إنريكو ماكانزاني) و (لوكا فولباتي) اللذان زارا بغداد لمناقشة إحتمال تقديم الأوبرا ضمن فعاليات مهرجان بابل الدولي ولدورته القادمة، نجد قراءة شخصية وتأويلية من قِبل الموسيقار (باتياتو) في نَص عاينه تاريخياً البروفيسور (أنجلو اريولي) أستاذ الأدب العربي القديم في جامعة روما، ويتضمن النَص مرحلة وقوف كلكامش مع أنكيدو بوجه (خمبابا) ثم موت أنكيدو ورحلة كلكامش بعدها في بحثه عن فكرة الموت والخلود.

الفصل الثاني للأوبرا يشهد إنتقالة تاريخية كبيرة، فيتصور الفنان (باتياتو) مجموعة من الصوفيين في صقليا وعند الفترة التي شهدت حضوراً عربياً على أرضها، وهم يناقشون تجاربهم في الحياة ضمن فكرة الموت والخلود وإعادة الولادة ... أي إنهم ناقشوا ذات الفكرة التي شغلت كلكامش بعد موت أنكيدو. ومن هنا جاءت المقطوعة التي أنشدها بالعربية في مفتتح الأمسية وحملت عنوان "ظل الضوء"، من عيون ذلك الموروث الروحي الصوفي. وجاءت الطريقة الآسرة التي ميزت جلوسه وسط المسرح على دكة خفيضة غطيت بسجادة زادت من ملامح الزهد التي حاول الإنسجام معها نصا ونغما وأداء.

باتياتو على خشبة المسرح الوطني ببغداد

العمل الذي وضع موسيقاه (باتياتو) وإشترك ضمنه في دور يمتد لعشر دقائق تمثيلا وغناء، حقق حسب الفنان الزائر نجاحاً "سُجلت معالمه عبر أحاديث الصحافة ومتابعة أجهزة الإتصال السمعية والمرئية"، وفي حفله ببغداد، قدم مقطعا منه تميز بالهدوء شبه التام في تعبير موفق عن الإمتداد الزمني للملحمة وبطلها وعمقها الفكري والتاريخي، بينما ظلت الآلات الإيقاعية تقدم تنويعات لم تخرج على الهدوء الذي ميز العمل، بينما كان صوت باتياتو أقرب إلى الشدو منه إلى الغناء الجهير.

وعلى سيرة الملامح الرافدينية في هذا المقطع من "أوبرا جلجامش"، قدم الموسيقار الإيطالي عملا بعنوان "ميسوبوتاميا- بلاد الرافدين"، تحوّل فيه باتياتو إلى ما يشبه الراوية لحكاية ما تعنيه تلك البلاد في وعيه الشخصي وعموم ثقافة بلاده والإنسانية.


"فوق النخل" في سياق أوركسترالي

وجاءت فقرة الختام لتشكل ذروة الأمسية-الحدث الثقافي، فقد أناط باتياتو قيادة الأوركسترا إلى المايسترو العراقي محمد عثمان صدّيق، فيما توزع أبرز عازفي الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية بين صفوف الأوركسترا، بينهم عازف الفيولا أسعد محمد علي، عازفة الكمان سولاف غانم حداد، عازف الكمان حسن حمد، وعازفا التشيللو أسعد الماشطة وعلي حسن، لتقديم جوهرة اللحنية العراقية الأصيلة: فوق النخل، بتوزيع مبهر وعزف ساحر، بينما كان الأداء الروحي لباتياتو لكلمات الأغنية كافيا لتعويض عسر بعض الكلمات عليه، وقدمها بطريقة الجذل الروحي الذي جعله يكاد يحلق على المسرح.

المايسترو محمد عثمان صدّيق يقود الأوركسترا العراقية- الإيطالية المشتركة


مولع بالأجواء العربية

وفي حوار مع صاحب السطور، أمتد حتى ساعة متأخرة من ليل بغداد وفي مطعم أنيق على شاطىء نهرها الخالد، كشف الموسيقار فرانكو باتياتو عبر هذا العمل ليس عن إتصاله العميق مع ثقافة الوطن العربي المجاور لبلاده وحسب، بل يُزيد ذلك الإتصال قوة وتأثيراً من خلال دراسته للغة العربية في جامعة روما وكذلك الآداب العربية حتى الحديثة منها، فهو "على يقين من وجود مقاربة خاصة فيما يُعرف بمنطقة حوض البحر المتوسط شمالا وجنوبا"، ولا يكتفي بذلك بل إنتقل مع فريقه الغنائي والموسيقي الى العديد من البلدان العربية فقدّم عروضاً موسيقية في أغلب دول شمال إفريقيا ويخطط لإقامة حفل خاص مع نهاية العام الحالي في بغداد يتضمن مجموعة من أغنياته الحديثة والتي تضمّنها شريط غنائي.

والشريط يتضمن أغنيات بقوالب كلاسيكية في الأداء والتوزيع كما إن الألحان تتوزع ما بين موسيقى (باتياتو) ذاته وأخرى مكتوبة من أسماء بارزة في الموسيقى الكلاسيكية مثل (يوهان برامز) و (ريتشارد فاجز) وحتى (لودفيغ فان بيتهوفن) وقدم بعضها في أمسيته الرائقة.

الجو الحميم الذي ترسمه الموسيقى الهادئة وبإيقاعاتها المتوافقة وبمواكبة من صوت (باتياتو) الدافيء والذي يثير الحنين، كل ذلك يجعلنا نتحسس وجود إختلاف في جو صناعة هذه الأغنيات وعملها الموسيقي الرصين "بعيداً عن موجات التصنيع السريع للموسيقى والأغنيات التي إستطاعت الثقافة الغربية السائدة فرضها على الذائقة مُلغية بذلك البناء الخاص الذي حاولت الأوساط الموسيقية الرصينة في أوروبا أن يظل مميزاً لفنها الموسيقي والغنائي".

ونحن إذ نقرأ في مشروع هذا الفنان الموسيقي، سواء عبر أغنياته الحديثة أم عمله الأوبرالي (جلجامش)، فأننا نتعرف على أعمال فنان رصين يعمل في مفهوم ثقافي حي قائم على الإتصال والإنفتاح على ثقافات العالم ومنها ثقافة بلادنا ووطننا العربي بعامة.


*متابعة نقدية نشرت في صحيفة "القادسية" الخميس 10 كانون الأول 1992



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM