نقد أدبي  



بوريس باسترناك:كتابة نقدية في أجواء المكاشفة

تاريخ النشر       05/07/2010 06:00 AM


ليف أوزيروف / شاعر وناقد
ترجمة - علي عبد الأمير

كون بوريس باسترناك أكبر من مدرسة, انه فضاء ثقافي, وعالم الشعر الذي لا يستطيع تجاهل شاعر ما, كيف سيبدو دون شعر باسترناك؟
ان المعنى السمح للكلمة التي كُررت حد الإبتذال (التقوى, التفاني) يوصلني بدقة الى ما أشعر به وأنا أتناول بوريس باسترناك ... لقد أفنى حياته وهو يتعامل بخشوع وتقوى مع مشاغله وطاقته الإبداعية الخلاقة كانت تشع ذكاءاً باهراً وما إنعكس منها كان كافياً لتزويدنا بفكرة جيدة عن قوته الحقة.
 ومفردة (القوة) هنا هي التي نعرفها نحن بكونها (الموهبة), كلمة لم يكن باسترناك يمتلك إزاءها إلا الإستهجان ولكنها كانت قوة أوصلته الى النبوغ.

معاً على حافة الهاوية
في عام 1935 إلتقيت باسترناك أول مرة بشارع فولكوفانس – موسكو – بعد محاولتين فاشلتين كنت اقترب فيها من باب منزله لكنني أعود راثياً حيائي السخيف وخجلي الأخرق, وفي المرة الثالثة أوصلت كل ما فيّ من شجاعة نحو جرس الباب كي أضغط عليه, إنفتح الباب بشكل مفاجيء وبما جلب لي الذعر.
لقد تسمرت في نقطة الدخول وقبالتي (بوريس باسترناك) في الخامسة والأربعين, شاب بعينين ناريتين تشعان لهباً أزلياً في حب الحياة, أخذني الى غرفة مظلمة كبيرة وجلسنا قريباً من نافذة تنفتح على هوة كانت منذ فترة قريبة مشهداً لكاتدرائية (المسيح المنقذ) المشهد الآن فراغ عقيم وحزين ويجلب الحنق والغيظ.
لقد توقعت ان أقضي قرابة نصف ساعة لكنني قضيت أربع ساعات بعدئذ! لن أحفر في تفاصيل حديثنا فقد لامسنا العديد من الموضوعات, انها كانت تنفتح على بعضها بسبل تبدو غير متوقعة وطريقة باسترناك في التخاطب والتقطع في الكلام كانت سبباً في ذلك, لقد أخذت تماماً بالطريقة التي يتحدث بها ويعبر فيها عن أفكاره.
باسترناك كان يبحث عن مفردة مناسبة تقابل ذلك النوع من الهزيم الداخلي, يبحث عنها بعيون مفتوحة محاولاً صيدها من (اللفظ الرتيب للمفردة) صاعداً بها نحو قوته التعبيرية.
من هنا يمكن معرفة ليس فشل خطابه الأدبي في الإنضمام الى قوالب الثقافة السائدة حسب, بل محاولته تهشيم تلك القولبة بجرأة مبهجة.
 لقد أثارني وأنا اراقبه منغمساً في عمله – كما تشهد ولادة خطاب حي يتدفق محدثاً خريراً من الإنفعالات الحية! لم يحدث من قبل ولا بعد ان استمعت الى حديث بمثل تلك الطريقة – انه يبدو مغذياً للذهن, ويظهر ما الذي على الشعر ان يشبه في كينونته حتى يعلن مهمته في الحياة, لقد تابعت حديثه, لفظه للكلمات, كنت حين أقول (وردة), يقول "ماتيولا" – وردة تبعث بعطرها في المساء وساعات الليل – انه جمال ليلي يطوف على تلك الوردة الفواحة من النرجس النادر.
لقد حملت أفضل ما عندي من نصوص, واستل احدها من الملف: كانت نوعا من الشعر الذي حمل اليه سعادة هانئة, وفي نظرة مركزة على نقاط الأفضلية في كتابتي تمكن من إنقاذي من التكرار المضجر للعمل بطريقة (الألفباء) في الأدب.
لم يتفوه بالنصيحة المبتذلة الدائمة: أقرأ الكلاسيكيات, وما كان يرغب في إيضاحه حقاً هو في قوله: التجارة تتطلب الدراسة والتعلم بينما الفن في أعلى اشكاله يمضي في الإتجاه المعاكس ويحذر من أساليب الدراسة البدائية.
في حديثه كنت أستجلب المعاني بين السطور, السطور القليلة وهذا ما منح نقاشنا بلاغة كبيرة, مضى في اتجاه الجدية وصار الحديث متزمتاً وصارماً وغالباً ما وصل درجة من التأرجح الدرامي, باسترناك لم يبق سراً عن نفسه, وكشف عن الإتصال الذي يديمه مع الآخرين, سماعه للموسيقى وقراءاته: قصائد نيكراسوف, اندريه بيلي, تيتسيان تابيدزه وسوناتا شكسبير السادسة والستين, كذلك شيء من موسيقى سفياتوسلاف لايختر.
حياة باسترناك الشخصية والخلاقة كانت تمضي في اتجاه كأنها درب عاصف ومليء بالمفاجآت – أصبح موضوعاً نيل منه بهجوم متواصل قبل سنوات الحرب, لقد آلمني ان أرى لا عدالة الموقف الفظ الذي قوبل به الشاعر دون وجه حق وحكم الإدانة الإجتماعية تبع موجة الإزدراء الذي تعرّض اليه ... وكانت أعماله ما تلبث ان تصدر روايته (دكتور زيفاكو) والنذالة حاصرته على حد تعبير ابنه "يفغيني باسترناك" مع نهاية عام 1958 على اثر منحه جائزة نوبل للآداب.

باسترناك: ديكتاتورية الدولة السوفياتية قابلته بازدراء  
 
الفترة التالية كانت مصحوبة بذلك الصمت المشؤوم ونذير الموت طاف حوله بما جلب الإنتباه حتى ان قصيدته (جائزة نوبل) التي كتبها عام 1959 غمرتها الوان السخرية المرة وجاءت على خلاف تام مع فنان ظل عمله مشبعاً بعزيمة لا تنفك عن إبقاء البهجة ملازمة للحياة.
الشاعر وجد نفسه لاحقاً وقد إنغمس في الترجمة وهذا الموقع حل فيه على غير توقع لكنه ما لبث ان أصبح عمله الأساسي: ترجم لشكسبير, غوته, شيللر, بايرون, فيرلين وشعراء من جورجيا.
آخر حديث لنا (دونته بتاريخ 29 كانون الثاني 1960) كان عن الترجمة, فوجدت واحداً من أعظم سادة الترجمة يتأسى من إضاعته لأفضل سنوات حياته في الترجمة دون ان يجد الوقت الكافي لتحقيق "أفكار أساسية", استطاع آخرون فتحها وبكل ما تثيره من احتمالات, منها مسرحية (الجمال الأعمى) ورواية عن مخاطر الوعي المسيحي في جورجيا, لقد كان في ظروف متوترة ومأزومة دون أن يتمكن محادثه من تحسس ذلك, انها الروح النزيهة والمتعالية للشاعر ولم يكن من ذلك النوع الذي يزيد وضعه الصعب مرارة بل كان دائماً معروفاً بلطفه وكياسته الحية.
 لقد قدّم البعض باسترناك كناسك أغلق على نفسه بعيداً عن شعبه وعصره, وبألم يقول: (جعلوني في البدء كقطعة آجر, وهاهم يدعونني بإيماءة من أصابعهم: تعال وانضم الينا), وفي اضطراب بائن يقول: (افكار كاذبة عديدة تصاعدت نحو فوضى الدوغمائية لأنها دائمة كانت مرافقة لأشياء لم تقبل الجدل ولإندماجها في مهمة مكرسة لعبادة الشخصية حتى ما يمكن ان توفره الحقائق المطلقة أصبح مرتبطاً بالإدعاء والزعم فأصبحت لا تنفع ضمن مقياس كوني!).

نصوص إرتجالية
اشكال خطابه وإنتقاله في الحديث من موضوع او فكرة الى اخرى, تخدم في تكوين انعكاسات اضافية, مونولوغاته كانت تتوالى, أرى فيها نصوصاً ارتجالية جديرة بأن تجعل محدثه يصمت تماماً ويستمع اليها, انها تتضمن موضوعة غالبة لكن مع وفرة من الإختلافات كأنها تتناسق ضمن قانون موسيقي, زميله في الدراسة (الكسندر ستيج) أخبرني بأنه كان يوزع شذرات فكره أثناء الحديث بين الموسيقى والشعر: شوبان, ريلكه, تولستوي, الحياة, الموت, قوانين الطبيعة ... وغالباً ما كان يجد الكلمات اللماحة والذكية لتصوير صفات موضوعاته الأساسية.
أهو خطيب؟ لا, أهو محاضر؟, انه فنان في لحظة تيه يجد نفسه وحيداً بعد حين مع قلم وورقة لكن برفقة مستمعين, وان يكن فان يطلق العنان لحماسته المتوهجة, شهقات تنفسه تتعلق بدفق دوامي من مشاعر بصيرة وحكمة بالغة.
(عين جريئة, متهورة) هذا ما كان يرغبه بوريس باسترناك في الفنان ودون تلك المغامرة والجرأة لن تجد المفردة (فنان) من يستحقها, كان يريد منه ان يرى أبعد وأعمق من الآخرين لأنه دون ذلك سيفقد مبرر وجوده.
بالنسبة لي ظل باسترناك لا مبالياً ولا يعرف الخوف, قاس على نفسه, رحيم وطيب مع الآخرين, وكل ما كتبه يتماثل مع حياته وشخصيته, في حديثه اليومي كان يتحول أحياناً الى الشعر وذلك لم يكن يستدعي منه حتى تغيير الصوت والأداء المنغم للكلمات وصيغة الكلام.
هذا هو المدخل الذي أراه لدراسة انجاز باسترناك, هو الذي ظل منذ البدء حتى النهاية مخلصاً للحياة, كرّس نفسه للحياة التي تتقدم: (الحياة – يا أختي) هذه من الممكن تحسسها في كل اتصال به, في كل بيت من شعره دون العبء بمكونات كتابته: بقولات التوابل, النجوم, غدران الغابة, الليلك, الأطفال, الحب, الثلج, المواعيد, الموت, التحولات.
(لا عليك بقسط من الراحة), هذا السطر منه ليس بأمر – عنوانه يتجه اليه أولاً – انه ايمان راسخ يصل الى حد الإدانة, قرّاؤه ومحبوه سيقولون عنه: كان فيلسوفاً, موسيقياً, ممثلاً بموهبة طبيعية وقدرة على التحول.
وكل هذا حقيقي ولكنني اضيف لما تقدم صفة الكدح اليه, وباسترناك حين قال: (لا عليك بقسط من الراحة) فانه يعني ذلك بسبب (لانك رهينة الأبدية وسجين الزمن), رجل مشغول يرى ذاته تتحقق في تنشيط فعاليته الإنسانية, ويجد مسرة بالغة في شغله.
كم هي استجابتي لدروس النزاهة والصفاء والشعر التي اخذتها عن باسترناك؟
الوفاء عندي لذكراه عن طريق ثلاث طبعات لأعماله, واحدة منها بالبلغارية وبمقدمة مني, والآن انا بقصد كتابة مؤلف عن باسترناك بجزءين: مختبره الشعري وذكرياتي عنه, وهناك وفرة من المواد لتكفي لأن يظهر الكتاب بعشرة أجزاء, يا للحسرة لم يظهر منها شيء حتى الآن.

نهاية العتمة
في شباط عام 1987 استعادت سكرتارية الأدباء السوفيت وبخطى جريئة ذكرى هذا الشاعر السوفيتي المميز ... كذلك طبعات كتبه ومنها روايته (دكتور زيفاكو) – طبعت في مجلة نوفي مير ... كذلك قصة حياة الشاعر, ذكريات عنه وأربعة أجزاء مختارة من أعماله.

*نشرت في صحيفة "القادسية" 27-7-1989
    



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM