علي عبد الأمير
ما الذي يعنيه إصدار عدد خاص بالشعر من مجلة أدبية تتوسم الرصانة كالأقلام, أهو المعنى الإحتفائي بالمربد في دورته الثامنة؟ أم هي الرغبة في إعادة تشكيل ملامح للمشهد الشعري العراقي المعاصر وبالتالي تقديمها لمن تحركه الرغبة في قراءة مستجدات هذا المشهد, سيما ان أروقة المهرجان تهيء اجواء لنقاشات مستفيضة يكون المشهد محورها الأساسي. لقد حاول العدد ان يقترب في إنجازه من كل تلك التساؤلات ويجيب عليها وأفضل ما يسجل له كفكرة ونصوص ودراسات هو النمط الذي تحاور مع المغايرة, نعم هناك نصوص اخرى تتوهج بالشعر ما عاد العثور عليها امراً طبيعياً على الرغم من مجاورتها لنصوص نمطية جاءت على ما يبدو (من أجل التوثيق) فقرأنا نصوصاً لشعراء عرفنا عنهم الزهد بالنشر واطلاق ومضاتهم الشعرية بتمهل بالغ من "حسين عبد اللطيف" بمحاولاته الرامية الى تكثيف المعنى ومطاوعته الرؤيوية وتثبيته للعبارة الجديدة: العين تحرر ربقتها مما ينتاب العين وتهيء اسلحة لفرائس غامضة مروراً بالشعراء "رعد عبد القادر" وارتحالاته التنقيبية فيما وراء اللغة وتشكيلات الجمال الشعري. منع البستاني وصيف الزهرة فوصم بالجنون وارسل الى صحراء ولا بد من وقفة تستحقها قصيدة (أسفل الشرفة) للشاعر "زاهر الجيزاني" في تركيبتها الشديدة التعقيد واحالاتها للعديد من الهوامش, غير ان هذا كله لم يمنعها من النمو المعماري, كانت القصيدة تتهشم في اضطراب حواراتها, لكنها تنمو من الداخل كرؤية, هذه الإتصالية مع الفكر المجرد والإلتماعات الفلسفية ليست بجديدة على هذا الشاعر فهي تجربة اخرى مهمة في قصيدة سابقة (ما قاله الإله مردوخ – 1985) اعتمدت ذات المحاورة ولكن هذه المرة جاءت بغوص في حوليات الأيام وإشاراتها المبثوثة في العناء والتكتم على الفاجعة. ربما رجل آخر, تصور الجدل جزاراً, يكشف تباعاً عن جسم الذبيحة ويكشف عن مفاصلها, وينتزع عنها جلدها ويعريها تماماً إن الإعلان الشعري الجديد لزاهر الجيزاني يتضح نهائياً عبر هذه العقيدة وأنا على مقربة من اليقين أشير بكونها رهانه الرابح, كما ان صورة المغايرة التي حاول العدد الخاص من الأقلام تقديمها, كانت أكثر وضوحاً عند قصيدة (فشل العبارة) للشاعر "عبد الرحمن طهمازي" التي حاورت معناها وأسقطت في التأمل المجرد برودته إعتماداً على رؤيا ومغايرة: هل يفزع الجمر للزمهرير فيثير فضول الشرارة فشل ثابت في العبارة هل افرق بين المروءة والحب, ام انني سأزور صديقي فأضل طريقي وكانت قصيدة (حروف المصحح) للشاعر "كمال سبتي" وهي الجزء الثاني من قصيدة طويلة بذات العنوان, ستشكل سقطة كبيرة لمستوى الإنجاز الذي ثبّته عبر ديوانه (حكيم بلا مدن) حين توزعت القصيدة اطراً مهشمة ومداخل وتعريفات غير ان الخاتمة انقذت الموقف عموما وأعادت المحاولة لشيء من التوازن. انه الموت السعيد, جاءك الآن, فانعم به, مطروداً من الأرض, ليرحل بك سيداً وأميناً على كلمتك الأولى مرحى للعطب, يكتب ما تريد مرحى له, ينهض بك, ويشير اليك بأن تبدأ في هذه الخطوة
وفي قصائده القصيرة اقترب الشاعر "هادي ياسين علي" من بلورة تطلعه الشعري, لأبعد من الغنائية كانت محاولاته ترمي وهكذا كانت على الرغم من حضور التقنية المكثف, ثمة استبدال لوظيفة المشاعر من الإبهار الى العلو بالمعنى: تمضي بنا سفن مجهولة من مرفأ منكسر لمرفأ في الريح مثل احتمال غامض عبورنا نمعن في غموضه لنستريح ومن حسنات العدد الأخرى, هي تقديمه الشعري لأسماء كتبت الشعر كمقاربات روحية, تكتنفها حالة المشاعر المكثفة, فالروائي "عبد الرحمن مجيد الربيعي" قدّم نصوصه القصيرة اكتشافات روحية وجدانية: اين الأشرعة لأنهر الصيف؟ اين الرياح لسفن القادمين؟ كذلك محاولة القاصّة – الناقدة "مي مظفر" في تجلياتها الموزعة بين الشخصي والكوني توميء بشيء من الشعر:
امرأة تقسم رجل يشتم باب يفتح باب يغلق شيء يسقط صمت ... صمت ... صمت يتوارى السر مع النجمة غير ان الصورة بمجملها تنتقل الى جدوى اكبر من هذه المقاربة حين نصل للنص الذي حمل توقيع القاص المبدع "موسى كريدي" فهذه المرة نتعرف بعمق على ملامح من موسى (الشاعر): صامت فلا عجب ان يأخذ الصمت في عينيه شكل صفصافة نائمة في زنزانة ... وهي محاولة تحسب للجانب الشعري من تجربة "كريدي" الكتابية, قد تتوج بظهور مخطوطته الشعرية (موت الببغاء), انه عموماً يحيلنا لأجواء الحوار وبلغة الكشف تلك التي حمل لواءها عبر اسهامه الفعال في مجلة (الكلمة) والحضور الشعري لأسماء عرفت بأنماط إبداعية اخرى يبدو كالمفارقة حين غابت عن الصفحات أسماء شعرية عديدة كانت ستغدو اسهاماتهم تعزيزاً لتنوع الصورة وتحديد تباينها الضوئي, بالطبع صورة المشهد الشعري العراقي. والملاحظة التي تحسب للعدد الخاص من الأقلام أيضاً هي في طريقة التقديم وكأنك تجد هنا تواصلاً بين الأجيال لا صراعها, وكأنها بداية حوار كنا نتمناه طويلاً لا تلك الآراء الممعنة في تجهيل الآخر ومحاولة إزاحته عن مساحة مؤثرة هي له فعلاً. هذه المؤشرات توقفت عند النصوص ولو انتقلنا الى القسم الآخر من العدد, لكانت العناوين المهمة في الدراسات هي محطتنا, فمن دراسة د. على جعفر العلاق الموسومة "حدود البيت ... فضاء التدوير" التي اهتمت بالقصيدة المدورة كبناء حداثوي: (ان تجربة التدوير في شعرنا الحديث تظل احد المنافذ الحية التي تنفتح على ثراء وتنوع كبيرين ... يمكنهما ان يوسعا من المدى الإيقاعي للقصيدة الحديثة, ويسهما كذلك في تعميق الصلة بين حداثتها الإيقاعية وحداثتها الرؤيوية معاً) مروراً على الجهد الدائب للشاعر – الناقد حاتم الصكر الذي عني بدراسة الاسطورة وتأثيرها في شعر "حسب الشيخ جعفر" وفي التطبيق كانت دراسة الناقد محمد الجزائري (جدل ثنائية الماء والنار – تجربة الشاعر حميد سعيد في ديوانه مملكة عبد الله), اعلاناً عن إسهامه ثانية من هذا الناقد بعد مؤلفه النقدي "ويكون التجاوز" وظل المنهج البنيوي يجد دائماً في خطاب "د. مالك المطلبي" النقدي فرصاً للتعرف على النصوص ومن خلال المنهج التحليلي فكانت قراءة اخرى تماماً لرائعتي السيّاب (غريب على الخليج) و (انشودة المطر), والتطبيق في النقد كان أيضاً محور دراسة الناقد "ياسين النصير" حين حاور مجموعة "تقريظ الطبيعة" للشاعر "عبد الرحمن طهمازي" مثبتاً فيها مؤشرات اليومي والمألوف. وكانت الآراء التي ثبتها الشاعر "عبد الوهاب البياتي" في حديثه المطول مع الناقد "ماجد السامرائي" قد منحت المطلع فرصة اخرى للتعرف على تجربة عريقة في شعرنا المعاصر وهو جهد كبير ذلك الذي قدّمه (د. عبد الرضا علي) حين قدّم ببلوغرافية الشاعرة نازك الملائكة: آثارها الإبداعية ومصادر دراستها. كانت الأسئلة في بداية استعراضنا لهذا الإصدار من الأقلام تحاول اكتشاف المغزى فيه, وحين نأتي الى آخره نرى الإجابة ونعثر عليها, على شكل سؤال مرة اخرى, لكننا نقول بالثناء ايضاً على هيئة التحرير, اننا وبالشعر ايضاً سنربح فصولاً ثالثة من المعرفة الفنية والكشف عن الجوهر الإنساني ... *مقالة نشرت في صحيفة "القادسية" 1989 |