علي عبد الأمير
أي خلاص تريده تجربة شعرية ما, حين تأخذ بالشعر نحو تحديد أدائي تقف خلفه عدة رؤى تسير التجربة ذاتها, الشعر ولكونه يوفر أكبر مساحة من المبادرة الفردية بين ألوان الإبداع الأخرى قد يُغري بكل هذا ولكن هل يحتمل الشعر ان يكون أسير ذائقة الشاعر وأن يكون مفصلاً في عملية معقدة كالمثاقفة التي يحيا فيها أي شاعر يتولى بدأب وضع نفسه في أتون المعرفة المعاصرة؟ المساحة الفائقة لممارسة الحرية في الكتابة الشعرية قد لا تكون مبرراً كافياً لأن نأخذ بالشعر في إتجاه نريد, وتحديداً ضمن بوصلة تؤشرها ذائقتنا, وتلك المساحة على إتساعها تُعلن جزعها بكل عناصر يثقل جوهرها المتناغم, إذن هل نرى في تجربة الشاعر عادل عبد الله مقاربة لإستطراد كهذا, وعيه المعرفي وإكتناز ثقافته بالجوهر الفلسفي هل يكون عنده أكثر من إمتياز في القراءة والتلقي؟ محو "الحسي" والرهان أبداً على ترصيع كل الأشياء ودمغها بالمكنون "الذهني", هل يكون ذلك فكرة ذاتية يجد فيها الشاعر مدخله الشعري أم يدفع به نحو المحاججة ليُفاضل بين تجربة وأخرى؟
المعرفة قد شكلت بإشاراتها الفلسفية مرجعاً مهماً في لغة الشاعر
يبدو أن قراءة متأنية في نصوصه الأخيرة ستُعلن عن وصول الشاعر الى نقطة اللارجعة ... إنه أحياناً يرتفع بقوة المهمة التي يجدها في "المعرفي" ليتماهى بها شعراً, فتغدو عنده الفكرة المعرفية العميقة قصيدة من بناء متين ويغدو النقاش الكوني أجدى من متابعة فيوضات "الإنساني" و "الحسي", لغته قطعاً لن تكون بعيدة عن نسيج متماسك كالذي اصبحت عليه الفكرة, هي من تنقيبه الطويل في إشارات لغوية تضج بها كتب المعرفة والمناهج الفلسفية فظهرت متميزة بين قصائد كثر نقرأها لآخرين, لكنها لغة مقفلة, لغة صادمة للوعي وللذائقة وهذا عنصر إمتياز مهم لها لو فعلت تأثيرها ضمن أفق تجربة متصاعدة تمتلك سبلها الحية في البحث والإكتشاف, لا كما جاءت مكتسبة دائما وعنصر غرابتها أحالها الى نوع من "النظم" الشجي لفكرة معرفية. بعيدة عن القنوط, روحانية شاعر كعادل عبد الله, هكذا تبدو مرادفاتها, المبثوثة في القصائد, لكنها هكذا فهلا إذ ترسي جزعها من مهمة ستظل تشعل في الشعر قوة لا تخبو, مهمة الشاعر في تثبيت ذهنه المتألق والشريد في كيانات حسية بل أرضية تساهم في تعطيل القوة التي يأتي بها كل ما هو قبيح ... لِمَ إذن "الذهني" و "التأمل" و "المطلق"؟ أهي العودة للإرتفاع عن "قذارات" اليومي ونقائض الوقائع النازفة للبشر؟ ... يبدو ان الشاعر أراد مسخ هذا السؤال بالكامل حين أجاب على ملاحظة مني مؤكداً ان مرجعية شعره تعتمد مصادر من عميق المعرفة الإنسانية, لذا فالتساؤل غير منطقي وهو لا يريد تنقية الشعر من "اليومي" بل دمجه في مهمة إعلاء شأن المعنى. ان الذي يتصل بنصوص الشاعر, يكتشف غياب رموز ودلائل وطرائق في التعبير نهض بها غير قليل من الشعراء لا في أفق محلي فحسب, بل في مدار إنساني أكبر, إنه يبث حتى في شهقات حب, عمقاً دلالياً عبراستعارات منمذجة ومراقبة صارمة لفكـرة تقبل التأويل: وان كانت المعرفة قد شكلت بإشاراتها الفلسفية مرجعاً مهماً في لغة الشاعر, فإن المرجع المهم الآخر كان "التصوف" كمعرفة وروح, هذا المرجع المؤثر في بُنية كتابته الشعرية بدأ ينسحب لصالح قصيدة مهمة كـ "مؤونة الرحيل الى الفراغ"(1) ولغة القصيدة: "ندماً على آت سأنهض في ضحى جسدي واعقر عند يوم سادس نطفاً مخلّقة ترف على شفير حياتها" لا في المفردة كإشتقاق وجرس حسب يأتي التأثير، بل في بناء مقطع ذي دلالات عميقة لا تميل الى الاطناب اللغوي بل في الإحتفاظ بترنيمة روحية تُقلق النظام التراتبي لنسيج الفكرة وبناءها ذاته, انه يبتعد عن التعلق بطريقة الأداء المنغمة, وليكسر في إنغلاق التجربة ويمدها بشواهد هي من تجربة حياتية لكنه يغيبها دائماً بنحت لغوي ومحاولة إبتكار في الصرف, لِمَ كل هذا البناء اللغوي مجرداً؟ أين هي إذن "أنا" الشاعر كذات تعقّل, تشرق وتكتئب بالحياة؟ أين الشاعر كذات تحيا في نص يمتلك قوة التوهج المعرفي, النص هنا مقفل وقابل للتأويل في آن؟ أهو تغييب المخيلة ورجم وسائل الأحلام لصالح رخام اللغة؟ أم هي الإستعانة "بالذهنية" الفائقة ازاء غياب التجربة؟ الأسئلة قد تنشطر وهي تتعامل مع نصوص "الشاعر عادل عبد الله": كيف لي أن اطيق صرير الحروف مسودات خلقك الينابيع(2) وهذا ليس بتعميم أسوقه كي اسمح لنفسي بتأجيل الذهاب المفصل الى النص, بل هو إيضاح نتائج برد الأسئلة الى جوهرها وبواعثها، وهي قد تقدم اعلان تعارض بين قراءتي وبين طبيعة السجال الشعري الذي يشتغل على إنتاجه دائماً عادل عبد الله، والذي ظل يؤكد على عنصر المغايرة فيه, مغايرة النصوص المكتوبة بسهولة النشر تارة وبسهولة الفكرة تارة أخرى والتي ضج بها المشهد الشعري الجديد.
النص حين يقفل دوائره الشاعر كثيراً ما يورد إشارات تصلح كمفتاح للدخول الى نَصه, لكنه لا يلبث ان يُكمل النص باحكام "اقفال الدائرة", كأنه معني بأن يظل الحارس على نَصه, يمنع أحداً من الإقتراب منه, إنه يرى بأن الكتابة الشعرية ذاتها هي في كمالها أقرب الى إكتمال الدائرة فمثلما تكون نقطة على محيطها نقطة بداية, تكون ذاتها نقطة نهاية, فهكذا أي بيت في القصيدة هو جزء صغير وكلي في ذات الوقت, وعليه ان يمنح مهمة ذلك الجزء في التعبير جهداً إستثنائياً, انه لا يقفل على الأشياء بمعنى ابعادها عن أداء دور حسي في القصيدة بل يشذب فيها ما هو شائن ولا يليق بالشعر, انه ينفصل عن "الحسي" ويريده معرفياً, لأنه سيتضمن "الحسي" وإشتقاقاته والفصل بينهما يراه لا منطقياً. إذن هل من إحتمال لقراءة العصر في قصائد الشاعر, في ظل تجربة أتم طريقة بناءها وملامحها أيضاً؟ نص "ذهني" فيه عناية بالمتن الفكري كالذي عليه نص عادل عبد الله, هناك إحتمال في قراءته عند عصور قديمة شهِدت سجالاً معرفياً: "وليس غير مؤونة الأحياء تفصلني وليس سوى فراغ صاخب صغي فأقدح في الهشيم نشيدي " مؤونة الرحيل الى الفراغ " إنه يتعامل مع عنصر التأثير "العصري" في النص لا بطريقة وجوده كمدلولات, انه ينفصل عن جوهر العصر في "الصدمة", ويرى ان البصيرة المزودة بقوة روحية تؤثر وبطريقتها المُثلى، وما بين "الصدمة" و "الدهشة" ستكون هناك علامات فارقة نجدها تميِّز نص هذا الشاعر: "هذي مخاطبة لمن فاض الملاك بروحها وتزورت بالآدمي ولم يرد في النص ما يبقى ليشهد ان وجهك آخر الكلمات في عصر الكتابة" قصيدة "مناظرة الشروق بقوة الأنثى" انه يقرأ في "اللامرئي" من "اليومي" ومهمة السير على أرصفة حاشدة والتقاط الصور منها ليست لنصِّه, إنه يحفز عن طريق الإبتكار اللغوي وبصرامة عقلية تُبعد عن الشعر مهمة إجرائية إندرج فيها عبر عشرات قريبة من السنين.... تجربة الشاعر [ضمتها مجموعته الشعرية الأولى "مؤونة الرحيل الى الفراغ, دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1989], لا نستطيع ولا حتى الشاعر ذاته، إعلان اكتمالها, وحتى التجربة والتعبير عنها حين يكتمل, تصبح منظومة إشتغال جاهزة لتحويل كل مشهد الى نَص شعري – وبذلك أستطيع ان أقول وبمقارنة أجدها بيني وبين الشاعر, إنه سيغادر منطقة "تذهين القصيدة" وتجريدها من مدلولات معاصرة الى مرحلة تالية من مشهده الشعري, إنه على أبواب انتاج نصوص قادمة لا يكون زادها الوحيد بناء عقلي صارم.
* مقالة نشرت في صحيفة "القادسية" 5 حزيران 1990
هوامش 1- مجلة الأديب المعاصر – ع 31 آذار 1986, ص 32 2- جريدة القادسية "البغدادية" – 26-12-1988 "ثلاث قصائد"
|