عمّان – علي عبد الأمير
مع غياب "وعي بيئي" بين فئات واسعة من العراقيين, نتيجة غياب المؤسسات البيئية المستقلة وإحكام الدولة سيطرتها المطلقة على مقدرات البلاد واعتبارها الأرض والبشر ملكاً لها تتصرف بهما وفق مصالحها, يبدو الحديث عن معرفة الشباب العراقي بما تعرضت له البيئة في البلاد من مخاطر وتتعرض, حديثاً تختلط فيه مشاعر الأسى لما تعرضت اليه الحياة العراقية من دمار (مئات الآلاف من أطنان القنابل في حربي الخليج الأولى والثانية والحروب الداخلية منذ عشرين عاماً, فضلاً عن تجفيف الأهوار والدمار الذي لحق بأكبر غابات النخيل في العالم, مع شبه غياب للمعرفة البيئية إلا تلك التي تتولاها دائرة حكومية مرتبطة بوزارة الصحة, أو التي تؤكدها دراسات تجريها كليات العلوم والطب.
يورانيوم منضّب دراسات أجراها طلبة الدراسات العليا في كليتي العلوم والطب في جامعة البصرة خلال العامين الماضيين كشفت "تفاصيل مروعة" عن الكارثة التي شهدتها المناطق المحيطة بالبصرة (أكبر مدن جنوب العراق وثاني مدينة في البلاد) فهي تعرضت الى قصف أميركي وبريطاني بقذائف اليورانيوم المنضّب خلال حرب الخليج الثانية 1991 ما أدى الى تركيز "نشاط إشعاعي" فاقم الإصابة بالسرطان الى عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب في المنطقة, أكثر الضحايا من الأطفال والنساء (أجنة مشوهة تولد ميتة, أورام في الرأس, في الرئتين وفي الجهاز الهضمي عند الأطفال, وأورام في الرحم وفي الثديين والرئتين والجلد عند النساء), المحاصيل الزراعية ملوثة بالإشعاع ذي التركيز المميت الى حد ان أبرز محصول تنتجه مزارع (الزبير) في البصرة وهو الطماطم شهد كساداً, فالأرض "خضبها" اليورانيوم مثلما الأجساد. باحثون عراقيون أكدوا ان "تلوث بيئة البصرة ومناطق واسعة من جنوب العراق بالإشعاع النووي االذي خلفته قنابل اليورانيوم المنضّب متواصل الى مئات السنين". وان كلفة التخفيف من النتائج الخطيرة للإشعاع ومن ضمن ذلك تنظيف مناطق واسعة من الأراضي, تبلغ أكثر من أحد عشر بليون دولار.
موت غابات النخيل ابناء بساتين النخيل الأكبر في العالم وهي تمتد ما بين البصرة جنوباً باتجاه الفاو وبمحاذاة (شط العرب) أفضل من يحدثك عن حدود الكارثة البيئية التي لحقت بالمنطقة مع أولى القذائف التي انطلقت من الضفة العراقية لشط العرب باتجاه الضفة الايرانية مع اندلاع الحرب عام 1980, فبعد استمرار تساقط القذائف على بساتين النخيل, احترقت الشجرة التي صارت رمزاً للبلاد وزادها موتاً استخدام السلطات العراقية لتلك البساتين مناطق انتشار لوحدات الدبابات والمدفعية ما تطلب قطع مئات الآلاف من "الشجرة المباركة" (لم تعد كذلك), فضلاً عن تغيير جذري بنظام صرف طبيعي لمياه شط العرب التي تدخل بساتين النخيل عبر آلاف القنوات والجداول الصغيرة, فتسوية الأرض تأميناً لحركة الدبابات والعجلات العسكرية أدت الى ردم نظام الري الطبيعي وتغيير في بيئة المنطقة, لتتغلب عناصر الجفاف والملوحة على عناصر الخصب والنشاط البشري الملحق ببساتين النخيل وعشرات الأنواع من النباتات المزروعة بتأثير ظلالها.
حملات قمع صدام وحروبه لم توفر حتى بساتين النخيل وسط العراق وجنوبه
باحثون في "مركز بحوث النخيل" الذي أصبح ملحقاً بكلية الزراعة في جامعة البصرة
يُحذرون من الإعلان رسمياً عن عدد النخيل الذي أحرقته الحرب مع ايران, غير ان تقديرات أولية تشير الى ان البصرة التي كانت تحتفظ بنصف عدد النخيل في العراق (يبلغ حوالي 30 مليون نخلة أواخر عقد الستينات الماضي) لم تعد فيها سوى خمسة ملايين نخلة.
(الأهوار) بلاد سومر تشكو الجفاف لا تُذكر حضارة سومر, إلا والمياه رفقتها, ومع اتفاق المؤرخين والباحثين في الحضارة الرافدينية القديمة ان سكان مناطق الأهوار في العراق هم امتداد لسكان بلاد سومر, وان مهارتهم اكتسبوها من مهارة في بناء حياة متناغمة مع مساحات شاسعة من السطوح المائية والكائنات التي توطنتها, ويبدو تجفيف الأهوار وكأنه مرحلة لإنهاء الفكرة التاريخية ولتصبح بلاد سومر بلا ماء! ومثلما تعاملت السلطات الحكومية مع غابات النخيل في البصرة بوصفها تملك الأرض والإنسان, بدأت مشروعها مع أواخر عام 1991 في تجفيف الأهوار, ولتبدأ بحسب مصادر بيئية دولية ومراكز بحث تعنى بالنشاط الإنساني البدائي "أكبر كارثة بيئية في عصرنا". أكبر الأهوار في محافظة الناصرية بالقرب من الفرات, وفي محافظة العمارة بالقرب من نهر دجلة وصولاً الى الحدود الإيرانية, المساحات الواسعة من الأراضي كانت تغطيها المياه منذ آلاف السنين, ومع وجود المياه كانت تتوازن البيئة, فالمياه والأشجار (البردي) و(القصب) يعدلان من درجات الحرارة, وينتجان نظاماً زراعياً متوافقاً مع البيئة وان كان شبه أحادي, فهو بالكاد يتضمن محصولين. وتجفيف الأهوار عمل ذو "أبعاد انتقامية" فهذه المناطق ومجاهلها المائية النائية وفرت للهاربين من الجيش خلال الحربين "مكاناً آمناً" بعيداً من ملاحقة السلطة, مثلما كانت انطلقت منها "مجموعات ثائرة" عقب انتهاء حرب الخليج الثانية لتنهي السلطة المركزية في معظم محافظات الجنوب ومدنه, ومثل هذه الأفعال تقابل عادة في العراق بالويل والثبور, وإنطلاقاً من ان الحكومة تملك الأرض والإنسان, فهي "حرة" في تغيير طبيعة المنطقة وان كان يعني اقتلاع ربع مليون انسان توارثوا حياة تمتد تقاليدها الى آلاف السنين, وتغيير بيئي هو الأوسع من نوعه في العالم. تجفيف الأهوار يعني بحسب ما يقوله مهندس ري من أهل الناصرية يعمل حالياً في أحدى الدول الخليجية واتصلت به "الحياة" للحديث عن "الأبعاد البيئية لتجفيف الأهوار" تغييراً تاماً في أقدم نظام لتنقية المياه وتعديل نسبة الملوحة في نهري دجلة والفرات كلما اقتربا من مصبهما في (القرنة) قريباً من البصرة, لافتاً الى ان اختبارات أجريت على نسبة ملوحة مياه نهر الفرات أثناء مروره في مدينة الناصرية أكدت ارتفاع معدل ملوحة النهر الى الضعف بعد سنتين من تجفيف الأهوار, والى ما يقارب هذه النسبة في مياه نهر دجلة أثناء مروره في مدينة العمارة. ويشير مهندس الري ان معدل درجات الحرارة ارتفع في مناطق وسط العراق وجنوبه بأكثر من درجة ونصف بعد تجفيف الأهوار, وان جفاف المياه أدى الى تركيز في ملوحة الأرض بينما كانت السلطات العراقية قدمت الى المنظمات الدولية من باب تبريرها تجفيف الأهوار, تقريراً يشير الى انها ستقوم باستصلاح الأراضي وزراعتها بمحاصيل الحبوب وهو ما لم تشهده المنطقة التي أصبحت شبه خالية من سكانها, وماتت فيها أصناف من النباتات ورحلت عنها طيور كانت تتخذها موطناً دائماً أو مؤقتاً.
كردستان العراق: "خردل" حلبجة و "بارود" الأنفال ظهر وعي شعبي بالبيئة في كردستان العراق ترافق مع حال الإنفتاح التي شهدتها المنطقة اثر خروجها من السيطرة المركزية, فهناك من المؤسسات العلمية والهيئات التطوعية ما وفر عناية بالبيئة في المنطقة, انطلاقاً من كوارث دمار لحقت بها, أبرزها مجزرة (حلبجة) المدينة الكردية شرق السليمانية والقريبة من الحدود الايرانية حين ضُربت بالأسلحة الكيماوية في السادس عشر من آذار (مارس) 1988, لتغطي سماءها سحب من غبار الخردل ما زالت تمطر تلوثاً وأمراضاً أبرزها السرطان. كما كانت "السحب الكيماوية" ذاتها ومئات الآلاف من القنابل التي اسقطتها القوات الحكومية العراقية على قرى كردستان في عمليات "الأنفال" أواخر عام مجزرة حلبجة ذاته, سبباً في تلوث بيئي ما زالت هيئات علمية كردية وبمعاونة تقدمها هيئات دولية مشغولة في التذكر بنتائجها ووسائل التخلص منها. معالم حياة تغيرت في كردستان, الى حد ان ينابيع مياه طُمرت كي لا يتخذها القرويون سبباً في بقائهم ضمن قرى متباعدة بين الجبال والوديان ما يجعل السيطرة عليهم أمراً صعباً. كاتب هذا التحقيق تعرّف بأم عينه على تفاح أسود تفحمت أشجاره في كردستان, وعلى جوز محترق وعلى سهول صار ترابها رماداً! وحين نسأل: هل يعرف الشاب العراقي ما لحق ببيئة بلاده؟ فثمة اجابات مختلفة على رغم الإتفاق على قذائف أميركا و "هبات" الحكومة في حروبها. هناك من يقول ساخراً "البيئة! ماذا يعني انها تتعرض لمخاطر تجعلها غير آمنة مستقبلاً ما دام ان البشر يموتون عليها حالياً ويعيش الهوان", وآخر يقول ان "العراقي المعني بإثبات حيويته عليه ان يعتني ببيئته فهي بيت الغد". المخاطر الحقيقية على بيئة العراق كانت ذات أبعاد سياسية وهو ما لا يمكن لدائرة حكومية للبيئة ان تتعاطى معه, الأمر ذاته عند "هيئة شعبية" تعنى بالبيئة ممثلة بلجنة الصحة والبيئة في "المجلس الوطني", والمسموح الحديث عنه والتعريف بمخاطره هو حديث عن النتائج الكارثية للإشعاع المهلك الذي حملته قذائف "اليورانيوم المنضّب". فيما هناك مجال تنشغل فيه هيئات البيئة الرسمية, هو تلوث تلحقه المصانع بالهواء والماء في المدن فضلاً عن عوادم السيارات القديمة! * تقرير نشر في "الحياة" 2001 |