عمّان – علي عبد الأمير
قبل نحو شهرين اتصلت محامية عراقية مقيمة في بلد أوروبي بـ"الحياة" عاتبة على نشر معلومات عن استخدام نساء عراقيات أساليب تقارب الخرافة والمعتقدات "البالية" من أجل تحقيق أمنية باتت صعبة: الزواج في ظل ركود اقتصادي وأزمة اجتماعية تعانيها قطاعات عريضة من الشباب العراقي اليوم, وعلى رغم الإيضاح بأن ما نشرناه كان معلومات مأخوذة من صحيفة تصدر في بغداد إلا ان المحامية ظلت متشككة حتى تسلمت النص الأصلي للمادة المنشورة في الصحيفة الأسبوعية العراقية. وقبل أيام اتصلت المحامية ذاتها بـ"الحياة" مجدداً لتبادر بنقل حقائق عن الأرقام الكبيرة للنساء العراقيات غير المتزوجات, وعن العدد المرتفع لحالات الطلاق وبما يفوق حالات الزواج, مشيرة الى تقرير إخباري صادر من بغداد. وكانت صحيفة "الرافدين" الأسبوعية الصادرة في بغداد أوضحت الأسبوع الماضي ان نحو مليون امرأة عراقية تتراوح أعمارهن بين 35و45 عاماً (خارج السن الطبيعي للزواج) غير متزوجات, في مؤشر الى تصاعد (العنوسة) في المجتمع العراقي الذي لم يكن يعرفها قبل عشر سنوات. ونقلت الصحيفة عن إحصائية لوزارة العمل والشؤون الإجتماعية, تصاعد حالات الطلاق "بسبب الظروف الإقتصادية الصعبة" مشيرة الى أن العام الماضي شهد ألفي حالة طلاق في مقابل 1750 حالة زواج أي ان الطلاق فاق الزواج بنسبة ليست قليلة. كما ان ألفي حالة زواج في بلد يبلغ تعداده أكثر من 23 مليون نسمة (حسب إحصاء عام 1997) وضمن نسبة كبيرة للشباب فيه, تعني مؤشراً قوياً على عزوف الشباب العراقي عن الزواج. معلوم ان السلطات العراقية وبتدخل مباشر من الرئيس صدام حسين, أقرت خطوات تشجيعية للشباب على الزواج أبرزها تقديم قرض بمبلغ نصف مليون دينار (250 دولار) للراغب بالزواج يستقطع منه على دفعات شهرية طويلة الأمد, وبيع الخشب اللازم لأثاث غرفتي النوم والاستقبال بسعر مخفّض من قبل وزارة التجارة الى الراغبين بالزواج, وإعلان الأفضلية للتعيين في الدوائر الحكومية للمتزوجين. وقصدت تلك الاجراءات الى التخفيف من أزمة اجتماعية ضاغطة, عنوانها العريض: شباب من كلا الجنسين بلا زواج, يعني مشكلات اجتماعية كبيرة واختلالاً في التركيبة المتوازنة للمجتمع.
الزواجات الجماعية التي أمر بها صدام: اي تاثير واي قيم؟
ويبدو ان الأزمة الإقتصادية والنفسية الطاحنة التي تعانيها أجيال من العراقيين ما بين 25-40 عاماً لم تلق بظلالها في تأخير موعد تشكيل بيت المستقبل عبر العزوف عن الزواج وحسب, بل وفي ازدياد حالات الطلاق عن حالات الزواج (كما في احصائية وزارة العمل والشؤون الإجتماعية المذكورة سابقاً) لتتسع الأزمة الإجتماعية الى اكثر من رجل عازب أو امرأة مطلقة, بل الى أطفال يعانون أزمات نفسية. وكانت "الحياة" نشرت قبل أسبوعين خبراً عن تأسيس السلطات العراقية "مؤسسة صدام الإجتماعية" التي أوكلت إليها مهام تشجيع الشباب العراقي على الزواج والبحث في الأزمة التي يعانيها أكثر من مليون شاب يرفضون الإقتران بشريكة العمر, ومع الرقم الجديد للنساء العراقيات (العوانس) الذي أعلنته الأسبوع الماضي وزارة العمل والشؤون الإجتماعية, ونحو مليون فتاة ما بين سن الرشد (18 عاماً) والسن التي إعتُمِدت لتحديد العنوسة (35-45 عاماً), فإن نحو 3 ملايين شاب وشابة في العراق أبعدتهم نتائج الأزمة الإقتصادية والإجتماعية التي تشهدها البلاد منذ أكثر من عشر سنوات عن تحقيق امنياتهم في "الإستقرار" النفسي والإجتماعي بحسب ما تأمله الثوابت والقوانين الإجتماعية. العزوف عن الزواج بسبب تدهور الأجور الشهرية وندرة فرص العمل أصلاً, وأزمة السكن الطاحنة (أعلن العراق ان مليوناً و 800 ألف وحدة سكنية يحتاجها لتخفيف أزمة السكن), قادت الى ظواهر غريبة لم يكن يعرفها العراقيون من قبل, إعلانات الزواج في الصحف الأسبوعية تظهر انزياحاً عن القياسات الطبيعية المتداولة عن الزواج المتكافيء, فثمة فتيات يحددن في الشخص المطلوب للزواج: "كبير في السن وغني ولا بأس ان يكون مطلّقاً وله أولاد"!! الشبان يحددون أيضاً في المطلوبة للزواج ان تكون "غنية وتتمتع بسمعة حسنة من دون الإشارة الى العمر, ولا اعتراض إذا كانت مطلقة" وضمن هذا البعد "الإقتصادي" لعروض الزواج. من النادر ان تجد طلباً "طبيعياً" للزواج فيه تكافؤ العمر والمستوى الدراسي, والسبب واضح ومعلن, ففرص الزواج الطبيعي متاحة وكبيرة, ولا حاجة لاقتناصها من طريق اعلانات الزواج. ومن بين الأسباب التي ضاعفت اعداد حالات الطلاق في العراق, سبب يندر ان يحدث مثيله في أي بقعة في العالم غير العراق, فآلاف الرجال المتزوجين ممن يتمكنون من الوصول الى "بلد آمن" يخططون لإلحاق عائلاتهم بهم بعد الإستقرار في "الوطن الجديد" وبما ان السلطات العراقية لا تمنح الزوجة إذناً بالسفر الى خارج البلاد إلا بموافقة خطية من الزوج المقيم في الخارج توضح أيضاً مكان إقامته ونوع عمله من خلال وثيقة تصدرها السفارة أو القنصلية العراقية, وبما أن الكثير من العراقيين المقيمين في الخارج يتشككون في تقديم هذه المعلومات الى السفارات, لذا فإن الحاجة أوجدت "أم الإختراعات", ألا وهو اختراع طلب الزوجة المقيمة في العراق الطلاق من زوجها (الذي هجرها وتركها من دون معين), وهو ما يتحقق لها قانوناً, لتتمكن من السفر بصحبة محرم, ولتتزوج من زوجها ثانية بعد الإلتحاق به في الخارج. عشرات من العراقيين في عمّان التحقت بهم زوجاتهم بحسب هذه الطريقة العجيبة "الطلاق من الزوج للإلتحاق به" وهم يقولون: "هل هناك في العالم استخدام حميم وعائلي للطلاق مثل هذا الذي ابتكره العراقيون؟".
*تقرير نشر في "الحياة" 30 تشرين الأول 2001 |