عمّان- علي عبد الأمير
علاقة العراقيين بالكتاب ظلّت دليلاً على تحولات اجتماعية, فهي وطيدة وحميمة, حين كانت المؤشرات الاقتصادية والسياسية تذهب الى أشكال شبه مستقرة, وهكذا كانت المكتبة مَعْلماً بارزاً في حياة العراقيين, عامة كانت أم خاصة, جدران المكتبة العامة ظلت ركناً من أركان أي مدينة حتى تلك البعيدة عن العاصمة ومراكز المحافظات. هذه العلاقة الوطيدة بالكتاب تعرضت الى إنكسارات, منذ أن بدأت الريبة والهواجس الأمنية تحكم الحياة العراقية لجهة لجوء نظام حزب البعث الحاكم الى إعلاء قيم عسكرة المجتمع وترسيخ الأساليب الأمنية كمقدمة لزج العراقيين في حروب ما زالت كوارثها قائمة. مئات آلاف الكتب أحرقتها عائلات الشيوعيين العراقيين أو طمرتها بعد بدء حملة "البعث" أواخر سبعينات القرن الفائت ضد الشيوعيين وأنصارهم, ومئات آلاف أخرى بعد حملة مشابهة وإن كانت أكثر قمعاً ضد أنصار "حزب الدعوة", لتأتي الحرب ضد ايران لتشيع تبعاً للأرقام العالية لضحاياها من العراقيين, جواً من عدم الجدوى في المعرفة والثقافة عموماً. ولذا كان الكتاب أكبر الخاسرين مع سيادة أجواء الحرب. ومع الإنهيار الحقيقي للكيان الإجتماعي والثقافي للعراق بعد حرب الخليج الثانية بأعبائها الإنسانية أصبح منظر المكتبة في بيوت العراقيين "مثيراً للإستغراب" كما يقول الشاعر رعد كريم عزيز وهو أحد أدباء العراق الذين تحولوا الى مهنة بيع الكتب, فالعراقي المعني بالكتاب لاهث خلف لقمة العيش, ومضطر في أحيان كثيرة الى بيع أجزاء من أثاثه. إزاء كل هذه التحولات, هل توقفت القراءة او انقطع البحث عن الجديد في الكتب؟ سؤال لا يتردد العراقي عن تأكيد نفيه وبقوة, فبعد الهزات الإجتماعية والثقافية, التي اعدمت عند العراقي القدرة على اقتطاع جزء من موارده لشراء الكتب والدوريات والمراجع. كانت هناك أساليب جديدة في التعاطي مع الإصدارات أبرزها أسلوب شراء نسخة واحدة من كتاب جديد يفوز بإجماع على أهميته وتصويرها عبر جهاز الإستنساخ الضوئي "الفوتوكوبي" لتتحول الى مئات النسخ بل الى آلاف في بعض الأحيان كما في كتاب "العراق" بأجزائه الثلاثة للمفكر الأميركي الفلسطيني الأصل حنا بطاطو, و "مذكرات الجواهري" وكتب عراقية "ممنوعة" مثل مؤلفات الباحث حسن العلوي وكتب شقيقه الباحث هادي العلوي وكتاب "الذات الجريحة" للروائي سليم مطر, وعشرات العناوين من الإصدارات الجديدة "المهمة", فيما ظلّت كتب الراحل علي الوردي من أبرز ما يُقبل عليه العراقيون حتى من الأجيال الجديدة التي لم تعرف الوردي ولم تعش مرحلته. وبحسب ما يروي كتّاب ومثقفون عراقيون, ممن أدمنوا التجوال في "شارع المتنبي" والتعاطي مع أجوائه حيث الكتب من كل نوع ولون, فإن كتب الأدب الى جانب كتب الفكر الماركسي هي الأكثر كساداً, ولا تقاوِم أمام سطوة الإقبال على الكتب الإسلامية, بعدما سجلت مؤشرات "صحوة دينية" في قطاعات واسعة من العراقيين الذين عرفوا طويلاً بعلمانيتهم. أعلى الأسعار تسجلها الكتب العلمية الحديثة في حقول الطب, الهندسة, الفيزياء والكيمياء, أما قاموس "المورد" فيتم استنساخ طبعته الحديثة في كل عام, ليصل سعر النسخة المصورة الى 16 ألف دينار عراقي فيما سعر النسخة الأصلية يبلغ 50 ألف دينار. ومن بين وسائل "التحايل" على عزلة العراقيين ثقافياً, برزت ظاهرة "استئجار" الكتب والمجلات. الكتاب الجديد يُستأجر بسعر 500 دينار لأسبوع, فيما تُستأجر المجلة الجديدة بـ 250 دينار لثلاثة أيام, وأكثر المجلات رواجاً, هي المجلات الأسبوعية المنوعة والفنية ومجلات الأزياء. كل هذا التعاطي الواسع مع الكتاب, ظل خارج المؤسسة الرسمية, ما وفّر "حرية" لم يكن يعرفها سوق الكتب الذي ينوء بأعباء الرقابة الصارمة وهي صاحبة النفوذ حتى على معارض الكتب التي أقامها ناشرون ومكتبيون عرب خلال العامين الماضيين في بغداد. و"شارع المتنبي" بحركة بيع الكتب الواسعة فيه, جذب شعراء العراق وكتّابه ليتحولوا باعة, ولاحقاً "تجّاراً" للكتب, كما هو حال الشاعر منصور عبد الناصر الذي كان بدأ مع مجموعة من الكتب على رصيف في "الباب الشرقي" وسط بغداد قبل نحو عشرة أعوام, ليتحول تاجراً وناشراً يمتلك اليوم مكتبة ضخمة في "الباب المعظم". أما حال المترجم والكاتب غانم محمود فهي غير حال عبد الناصر, فهو مات قبل أشهر بعد ان كان يقضي معظم يومه واقفاً امام مجموعة من الكتب عرضها للبيع على رصيف في "شارع الرشيد".
*تقرير نشر في "الحياة" 2002 |