يعتمد الشاعر العراقي كزار حنتوش لغة شغوفة وعفوية ونبضاً موسيقياً يجعلان قصيدته مألوفة بل أقرب الى القصيدة المحكية العراقية السائدة في إقليم "الفرات الأوسط" وقد شاء الشاعر فيه وما زال يحيا فيه أيضاً ومنه يستمد المادة الأساسية في شعره, صور الحياة ودلالاتها المباشرة والروح المتهكمة من ملامح الفخامة والوجاهة. فهو شاعر صعلوك في حياة صارمة وكئيبة, يرضى بالقليل, يبيت لياليه في بغداد في فنادق رخيصة وآماله بسيطة وله مريدون في الشعر والكتابة والحياة, ولكن ما لبث إن انفض منهم عدد مع إصراره على ان يكون في شعره "المخلص" للمؤسسة الثقافية في العراق. هكذا تتوزع نحو عشر من قصائده الأخيرة اهداءات الى الشاعرين حميد سعيد وسامي مهدي, وهذا ما اعتبره المريدون "ولاء يتعارض مع فكرة الصعلكة بصفتها سخرية من المؤسسة ورموزها". وما زاد من حنق المريدين انه تزوج قبل 4 سنوات من الشاعرة رسمية محيبس زاير وصارت اوقات الطيش المشترك نادرة بل غير ممكنة: "جئت الى (نادي الأدباء) / مهووش الشعر, غريباً, وجلاً, مرتاب / فلقد انبأني ملك الأفاقين السبعة / بأن صديقي الشاعر / قد ضاقت انشوطته / والدنيا خطّت دائرة النار حواليه / بجناح غراب / لكن البواب / يرجمني بحصاه ويطاردني بعصاه / احني رأسي حتى بوز حذائي غير المصبوغ / كأجير مصري في بار لسراة القوم / عفواً ... ان صديقي الشاعر / يقبع تحت السرو / كجرو / منتظراً ان انسف وحشته ... وأولِّي ... / انظر ان لدي قليلاً من بارود الحرب / انظر بلّتني الأمطار تماماً / والقمر الأخضر غاب / لكن البواب / ثانية / يرجمني بحصاه / ويطاردني بعصاه / اقفز بار الأدباء / اتخطّى الخافر والساقي والبواب / واحط على مائدة الليل / حيث الوحشة كالناعور / نازلة صاعدة / صاعدة نازلة / يأتيني رأس الندل المتخفي في زي غراب / ماذا تطلب يا سيد / - قنبلة".
كزار حتوش: لغة شفوف ونبض موسيقي شفاف
كزار حنتوش المتهكم من وقائع البلاد وتحديداً وقائع الحروب والحصار "حالم في زمن تزاحمت فيه السبل" ولكنه ما زال يرى الحلم ممكناً على رغم الفوضى والصخب ويرى ان ما "انجزه من معادلة متوازنة بين ذاته والآخرين" منحه القدرة على وصف نفسه بأنه "أسعد انسان في العالم" كما يوحي بذلك عنوان مجموعته الشعرية الصادرة أخيراً في بغداد عن "دار الشؤون الثقافية العامة": "مسكين شاعر (غماس) الفائض / ظل يجوب الحانات طويلاً / بالجيب الخالي / والحلم الباهض / في الكأس المترعة / كان ذبابة / وأزيحت ... / في باب الصمت المشرع / كان ربابة واريحت ... / مسكين شاعر (غماس) الفائض / كسرير دون نوابض ... / ظل يصر طويلاً / تحت الصمت الذهبي / والعمر القائظ". يكتب الشاعر بلغة يومية مستغرقة كلياً في الواقع العراقي وحكاياته المألوفة والمكتنزة بروح "الحكمة الشعبية" وقصيدته في هذا الشأن استمدت دفقها الموسيقي وطواعية صورها من انشغال الشاعر مطولاً في كتابة "الشعر الشعبي" (الشعر المكتوب بالدارجة العراقية في مناطق وسط البلاد وجنوبها) حتى ان هناك من يصف "اللغة العراقية الفصحى" لقربها الشديد من الكلام الدارج والرؤى والمعتقدات الشعبية كما في قصيدة "إسكافي عفك" المرتكزة أصلاً الى حكاية شعبية عراقية عن خيبة إسكافي ذهب الى مدينة "عفك" في الجنوب من دون ان يعلم ان اهل المدينة حفاة!! ورأى حنتوش ان "هناك مسافة قلقة بين هبوط اللغة والرطانة الريفية الفجة الصارمة, وعند هذه النقطة وقف كزار حنتوش وهو يكتب اللغة الوسطى ذات المنحى الديمقراطي في التناول والاندفاع التعبيري والتي لا تنوء بأوزار أو قوانين اللغة الأم ولا تحمل لغة الشعب الحية الى الفجاجة المسطحة, لغة كزار اداة توصيل عادلة وساخنة يرفدها فيض زاخر من التجربة الاجتماعية والفردية العميقة الموشومة بالأمثال والحِكم الإنسانية والأقاويل الشائعة والتي يفككها الشاعر او يضيء جوانب منها او يعيد صوغها ويشاكس معطياتها التقليدية المستهلكة وقد يحتال عليها ليفجر منها طاقة إيحائية أو ادائية جديدة أشد تأثيراً وإنارة". كما يلفت الى ذلك الكاتب علي الشباني في جريدة "الثورة". يسميه مريدوه "صديق رغيف الخبز" وانه "قد يضيء الأقدام المتربة لإبن الشعب المغمور": "اريق الدمع على كتفيك / وبغمزة برق نتصافى / وترعد فينا سنوات ضوئية / وتبللنا امطار حنين / وتهب رياح حنين / سنطير بخفة صقرين عجوزين / نحو غناء قرب بساتين غضة / وزهور محبين / وأقول: خذ الذكرى ماسه / وتقول: الواحد منا لا ينكر ناسه". غير ان هذا التطامن مع "روح شعبية" لم يكن هادياً لحنتوش على طول الطريق, فكان موضع تهكم مريديه حين كتب قصائد المديح للرئيس صدام حسين. وهم أشاروا الى انه لم يمنح مالاً كبيراً مثل فحول شعراء المديح في العراق اليوم لأن "المؤسسة ترفض قصيدة مديح يكتبها شاعر صعلوك", وكان عليه ان يكون منسجماً مع ذاته المبثوثة في القصائد: "بهدوء .. بهدوء / كالشمس المنسحبة / تتفتح روحي المضطربة / وتضيء الجلاس / بهدوء .. بهدوء / كالماشي بين الألغام / أتوارى خلف نعاسي / ألقي في وجه الليل بقايا كأسي / وأنام". ومنذ "الغابة الحمراء" مجموعته الشعرية الأولى (بغداد 1988) وكزار حنتوش مأسور بفكرة "البيت العراقي الطيني الأليف والمفتوح على الشمس والناس", قصيدته, فعل بسيط وسريع الإنجاز ذلك انه "على عجَل من أمره دائماً وليس لديه الوقت ولا المسوغ للمطاولة ومعاينة الأثر الشعري لحاجة نقدية, وهو لا يماحك قصيدته".
* نشرت في "الحياة" 25 نيسان 2002
|