عمّان – علي عبد الأمير
تسأل الناشر العربي فيجيبك "تعثّر المطبوع العربي لإفتقادنا أكبر سوق للكتاب وهو السوق العراقي" في الوقت الذي يذكرك أكثر من مهتم بالكتاب بـ"الحكمة" المتداولة التي تقول: القاهرة تكتب, بيروت تطبع, وبغداد تقرأ. وشارع المتنبي في بغداد المتفرع من شارع الرشيد, هو سوق الكتب, طباعة وتجليداً وتسويقاً يوم كانت بغداد مثلما يقول الناشر أكبر سوق للكتاب ومثلما تؤكد "الحكمة" نهم أهلها للقراءة, بينما هو اليوم, سوق لبيع الكتب, بل لبيع مكتبات بأكملها, مكتبات نادرة, أفنى في تجميعها أصحابها وطراً كبيراً من سنوات عمرهم, مكتبات لرجال أدب وفكر, مكتبات لرجال سياسة, مكتبات أساتذة جامعة ومن أهل الطب والهندسة والقانون والإقتصاد, فلا مكان لحكمة (أثيرة) أخرى, مثل "خير جليس في الزمان كتاب", مع إيقاع الضنك والإحساس المتعاظم بالفاقة, والجوع كأنه وحش يمد أذرعه الضخمة الى الأمكنة التي تشغلها الكتب في البيوت, ويستل منها مجموعة قيّمة ويرميها في الفراغ علها إذ تطير, تتحول الى رغيف خبز!! لا تبحث عن كتاب وتضيّع الكثير من الوقت في ذلك, فقط إذهب الى شارع المتنبي واسأل احد الرجال ممن يقفون عند مجموعة من الكتب المفروشة على جزء من الرصيف, فعنده السبيل الى ما تبحث عنه, فهو وإن كان لا يعرض إلا مجموعة من الكتب, فإن لديه من الخزين ما لا يخطر لك على بال, يشتري بأسعار بسيطة ممن يحمل كتبه مذعوراً من صوت الجوع في بيته, ثم يبدأ بعرضها للبيع وكما يريد, فهو هنا بائع وببساطة عليه ان يحقق ربحاً كأي "بائع" آخر. أخيراً دخل على قائمة (الباعة) في شارع المتنبي, كتّاب ومثقفون عراقيون, بدأوا بمكتباتهم الشخصية وتعثروا في البدء, غير ان الحال مشى في المرات اللاحقة, وتلقفوا تقاليد البيع والشراء في هذا المجال واقتناص الزبائن, لا بل انهم تخصصوا كل في حقل محدد, ذلك في كتب التراث, وهذا في الطب, وآخر في الأدب المعاصر في الموسوعات وفي الكتب الممنوعة التي نشط سوقها على طريقة الاستنساخ (التصوير). بعضهم ظل (أديباً) و (مثقفاً) حتى ان أصبح (يبيع ويشتري), والآخر أصبح "شايلوك" حقيقياً. الى فترة قريبة كانت "المكتبات العامة" – التابعة للدولة – في بغداد والمحافظات العراقية تتمتع بمهابة واحترام خاص, لا من الجهات الرسمية التي تشرف عليها بل من عامة الناس الذين استمروا في النظر الى المكتبات والعاملين فيها بوصفهم "أصحاب رسالة" يقومون بعمل "فاضل". لكن في ظل إنهيار بُنية الدولة العراقية وتفكك عناصر الخدمة حتى الأساسية منها "الغذاء والصحة" بدا النظر الى رعاية "المكتبات العامة" أشبه بنكتة, بل هو كذلك فعلاً. ويقول القائمون على هذا الجانب ان كتاباً واحداً لم يدخل المكتبات العامة منذ عام 1990, ويوضح جاسم محمد النعيمي مدير المكتبات العامة في محافظة بغداد ان هذا يعني نقصاً يعاني منه آلاف من الطلبة والمستفيدين, ويعني ايضاً عزلتنا وعزلة مكتباتنا عن التطورات العلمية والفكرية والثقافية وبقاء موجوداتها على ما فيها من مصادر أحدثها قد أصبح بعيداً عن تغييرات كثيرة طالت المعرفة: مصادرها ومناهجها. وتوجد في بغداد 22 مكتبة عامة من بينها مكتبات للأطفال تفتح يومياً للرواد لمدة عشر ساعات, وهي تضم مختلف أنواع المعارف والعلوم مع مجموعة متميزة من المراجع العربية, ويبدو عدد المكتبات هزيلاً امام عدد سكان بغداد البالغ 5 ملايين نسمة, حيث تصبح هناك مكتبة عامة واحدة لكل 227 ألف مواطن. وتُبدي "الجمعية العراقية للمعلومات" قلقها من حال المكتبات وترى ان الإجراءات التي فرضتها سنوات الحظر مثل تقليص الإنارة, غياب وسائل مكافحة الفئران والأرضة والرطوبة التي تنهش في كتب بعضها لم يُطبع مجدداً ويُعد مما ندر, أوصلت المكتبات وذخيرتها من الكتب الى حالة مزرية. ان تخصيصات شهرية لم تزل قائمة لإدامة العمل في المكتبات العامة, وتدفع محافظة بغداد مبلغ 50 ديناراً فقط خلال الشهر لكل مكتبة, تصرفها على الإدامة, لكن المبلغ يعني ببساطة أقل من "سنت" واحد!! ومثل هذه الأرقام الأشد ضآلة من الضئيلة دعت محافظة بغداد للقيام بحملة لصيانة عدد من هذه المكتبات بعد تبرعات من الأهالي, ودعت للقيام بحملة وطنية لرفد هذه المكتبات بالمصادر والمراجع الحديثة إضافة الى الدوريات المتخصصة التي يستفاد منها المواطنون. ولا تخفي مصادر "جمعيات المكتبات" ان موجودات المكتبة العامة تعرضت للسرقة وخصوصاً المجموعات النادرة والثمينة من الكتب والمراجع, ووصل كثير منها الى عواصم مجاورة. ورغم ان احدى أساتذة قسم المكتبات في الجامعة المستنصرية ببغداد ترفع شعار "المكتبة العامة المتطورة تعني المجتمع المتطور" إلا أنها تبدو يائسة حين تتساءل: "أيمكن ان يصبح مبلغ 3 ملايين دولار على دولة كبيرة الموارد كالعراق, مستحيلاً رغم ان الهدف سيكون إنقاذ ثروة معرفية ضخمة من الضياع؟".
* تقرير نشر في صحيفة "الشرق الأوسط" الأحد 28/12/1997
|