مع هجرة العازفين وإسفاف المطربين فرقة قومية للغناء في العراق وإحياء اللجنة الوطنية للموسيقى
عمّان – علي عبد الأمير
قررت "دائرة الفنون الموسيقية" في وزارة الثقافة العراقية تشكيل "الفرقة القومية للغناء والموسيقى" لتمثل العراق في التظاهرات والمهرجانات الموسيقية والفنية, بينما أعيد إحياء "اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى" وهي كانت تولت تخطيط الحياة الموسيقية في العراق والإشراف على مؤسساتها وتقديم المشورة لـ"الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية" و "معهد الدراسات الموسيقية" و "بيت المقام العراقي" و "مدرسة الموسيقى والباليه" التي أصبح اسمها حالياً "مدرسة بغداد للموسيقى والرقص التعبيري". وبدا هذا السعي الى تحسين حال الموسيقى العراقية, رد فعل لإيقاف موجة الإسفاف التي ينتظم فيها الغناء العراقي, ولإيجاد حل ما لظاهرة هجرة أبرز الموسيقيين العراقيين الى خارج البلاد. مدير "دائرة الفنون الموسيقية" علي عبد الله قال في تصريحات صحافية ان دائرته تسعى الى قبول أكثر من 40 منشداً وموسيقياً لتكوين "الفرقة القومية للغناء والموسيقى" من بين أكثر من مئة تقدموا الى اختباراتها, لافتاً الى ان أعضاء الفرقة التي ستمثل العراق في مهرجانات موسيقية وفنية داخل البلاد وخارجها, سيكونون ممن لديهم موهبة مؤكدة في فنون الغناء والعزف.
الاوركسترا العراقية: اضواء النغم الرفيع في فضاء شديد الظلمة
خلو الساحة الموسيقية والغنائية في العراق من فرقة رصينة بعد أفول نجم "فرقة الإنشاد العراقية" التي شكلها أوائل السبعينات الملحن الراحل روحي الخماش, دفع القائمين على الحياة الموسيقية الى تشكيل الفرقة الجديدة لتكون علامة في الحفاظ على الموروث الغنائي والموسيقي العراقي في أشكاله الريفية والبدوية والمدينية (الغناء الحديث والمقام العراقي). ولعل عدم نضج تجارب لفرق غنائية وموسيقية: "فرقة بابل" و "فرقة أحباب القائد" و "فرقة البصرة" و "فرقة مغنّي الريف" أدى على ما يبدو الى إيجاد فرقة كبيرة تتوافر على فهم موسيقي وغنائي أعمق وعلى عناصر لها من الخبرات والموهبة ما يمكنه الإحاطة بألوان الموروث العراقي. الى ذلك أعيد إحياء "اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى" التي كانت تأسست عام 1971 وانتهى دورها فعلياً بعد مغادرة رئيسها الفنان منير بشير للبلاد عام 1991 وجاء في أسباب إعادة تشكيلها انها ستتولى المهمة الإستشارية للمؤسسات الموسيقية وتوجيه الأنشطة والتجارب والتظاهرات فضلاً عن التعاون مع المؤسسات الموسيقية العربية والدولية. اللجنة ضمت في تشكيلها الجديد, الفنان علي عبد الله رئيساً وفتح الله أحمد (الملحن والموزع الموسيقي لأبرز أغنيات كاظم الساهر) والفنان الرائد حسين قدوري (صاحب التجربة البارزة في ميدان غناء الأطفال والباحث الموسيقي الرصين) والعازف المعروف غانم حداد والملحن والمطرب الرائد عباس جميل والملحن طالب القرغولي والملحن محسن فرحان والموزع الموسيقي خليل ابراهيم. وعلى رغم بروز جيل جديد من الموسيقيين, أمكن له سد النقص في "الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية" التي تأسست عام 1948 وكانت رائدة بين مثيلاتها العربيات, إلا ان هجرة أبرز عازفيها الى خارج البلاد ظلت واحدة من التحديات التي جعلت الفرقة تخرج عن تأثيرها الفني الناضج في الحياة الثقافية العراقية. قائد الفرقة السابق الفنان محمد عثمان صديق ومجموعة من عازفيها يعملون حالياً في "أوركسترا المعهد الوطني الأردني للموسيقى" كما ان عدداً منهم توزعوا دول الشتات العراقي في الولايات المتحدة واستراليا وهولندا. عازفون أوائل وعلى مختلف الآلات في الفرقة يتقاضون أجوراً شهرية لا تتجاوز ما قيمته عشرة دولارات, تبدو أشبه بالنكتة السوداء إزاء خبراتهم وجهودهم التي تواصلت منذ أكثر من ثلاثين عاماً. عازفو الفرقة الموسيقية في "المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون" هاجروا هم أيضاً الى دولة الإمارات العربية المتحدة وقسم آخر منهم انتظم في الفرقة الموسيقية المصاحبة للمطرب كاظم الساهر. وغياب كهذا جعل الأعمال الغنائية العراقية المعاصرة تعتمد في تنفيذ الحانها على تقنيات "الكيبورد" و "السيكوينسر", ما أثّر في تدني مستوياتها, فتبدو الأغنية العراقية في أسوأ مراحلها فنياً. جيل غنائي جديد ظهر في العراق بعد حرب الخليج الثانية 1991 وفيه من التدهور الذوقي ما إنعكس على الحياة العراقية فصارت نهباً لتدهور المستويات الإجتماعية والإقتصادية بسبب الحروب والحصار. وعن أبرز أسماء هذا الجيل الغنائي يقول الناقد الموسيقي العراقي المعروف عادل الهاشمي, أنها أسهمت في "تشكيل مرحلة إنحطاط الأغنية العراقية وإسفافها" لافتاً في تصريحات نقلتها عنه صحيفة "نبض الشباب" الأسبوعية الصادرة في بغداد الى ظاهرة انحسار الأصوات الغنائية العراقية, فإعتبر ذلك عائداً الى "تحول الغناء من التعبير الى النداء الغريزي الفاضح", متناسياً العامل الحاسم في الظاهرة ألا وهو انسحاب الدور الإنساني الحي للمرأة العراقية, ففي الأربعينات والخمسينات من القرن الفائت كانت الأصوات النسائية العراقية تعادل الأصوات الرجالية إن لم تتفوق عليها كماً ونوعاً في مؤشر على إنفتاح اجتماعي وفكري في العراق لم يعد قائماً اليوم. وعن موجة "إعادة اغنيات أم كلثوم" بحسب صوت المطرب الشاب قاسم السلطان يقول الناقد الهاشمي ان هذا "تعبير عن إفلاس الأصوات الداخلة عنوة الى الغناء العراقي وعجزها". ومن بين ابرز المغنين في الغناء العراقي اليوم هيثم يوسف الذي يعتبره الهاشمي صاحب صوت "من الأصوات الصغيرة والفقيرة وهو صوت هوائي لا يمكن ان يكون صوتاً غنائياً لفقدانه التأهيل العلمي والعملي". وصوت المطرب حاتم العراقي بحسب آراء الهاشمي "صوت غجري يفتقر الى عنصر البلاغة الأدائية وسلامة الإلقاء الغنائي لأن التركيبة اللسانية عنده ليست مهذبة, وصوت حبيب علي "صوت نسائي يفتقد الى رصانة الأداء", والمطرب كريم منصور الذي عُرف ببعض الأغنيات الجيدة "قتله الغرور لكنه يمتلك صوتاً جيداً, وفي أدائه يتعالى على الجمهور ولا يكون جزءاً منه". هذه الحال في الغناء العراقي تأتي بعدما نالت الشيخوخة من أصوات حسين نعمة وياس خضر وفاضل عواد (المهاجر الى ليبيا أستاذاً للأدب العربي في إحدى جامعاتها), وبعد محاولات للتجديد لم تظهر تأثيراتها جلية عند سعدون جابر, ونمطية قاتلة في أداء حميد منصور, وبعد تحول رضا الخياط الى عروض غنائية لاهية لا احتراماً واضحاً لجدية الغناء وتعبيريته فيها, وخفوت معظم الأسماء التي واكبت ظهور المطرب كاظم الساهر ومن بينها: أحمد نعمة وكريم محمد. إلا ان علامتين طيبتين في الغناء العراقي ما زالتا قادرتين على تقديم أغنيات في مستوى فني لافت, وهما المطرب محمود أنور والمطرب مهند محسن, والأخير يتوافر اضافة الى موهبة الأداء المفعم بروحية صادقة, على موهبة التلحين مستعيداً بثقة خطوات المطرب – الملحن كاظم الساهر ولكن بشخصية تميزه.
* نشرت في "الحياة" 2 تموز 2001
|