العراق 2001: مدن تكتسب مظاهر الريف وشباب بين الزي البلدي و (البالات)

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       04/06/2010 06:00 AM


عمّان – علي عبد الأمير

إنعكست سنوات الحرب والحصار بأبعادها النفسية والإقتصادية على مزاج الشباب العراقي وسلوكه في غير مجال, وإذا كانت النسبة الأكبر من الشباب في بغداد والمحافظات تحرص في الماضي على الظهور بهندام عصري أنيق, فهي لم تعد كذلك اليوم, حتى ان اللباس الشعبي الريفي (الدشداشة) عاد ليفرض حضوره, وليتراجع الزي الأوروبي طالما انه يكلف مالاً لا يقدر على توفيره أكثر العراقيين اليوم.
     ومثلما أفرزت الحرب ووقائع الحصار, ظواهرها الإقتصادية والنفسية أفرزت أيضاً ظواهر اجتماعية في أوساط شباب العراق, فثمة أبناء العائلات الميسورة من كبار التجّار والمسؤولين, وثمة فئة أخرى من الشباب الذين لهم إخوة في خارج البلاد وهؤلاء ينعمون بموارد مالية تجعلهم قريبين الى التمتع بمباهج حياة لا تتوافر لعموم العراقيين بسهولة.
     وحيال هذا التنوع, بل الإختلاف الحاد في المداخيل, صارت أروقة الجامعات والمدارس الثانوية, مكاناً تنعكس فيه اختلافات الوضع الإجتماعي واختلافات أبناء المدينة وأبناء الريف أو المدن البعيدة (عن العاصمة بغداد) التي تزداد فيها ملامح الريف حضوراً لما عانته من وطأة وعزلة, ومن فقر جعلها تبتعد عن إيقاع العصر بخطوات متسارعة.

زي موحد
     وكانت خطوة الجامعات العراقية في إلزام الطلاب والطالبات إرتداء "الزي الموحد" قبل ثلاث سنوات, جزء من "حملة تربوية" للتقليل من هذا التباين الإجتماعي والإقتصادي بين فئات المجتمع ومن انعكاساته في الجامعة. وكان لـ"الإتحاد الوطني لطلبة العراق" وإدارات الجامعات العراقية, الدور الحاسم في التحذير من إنعكاسات نفسية "قهرية" قد يتعرض لها معظم الطلاب وهم يرون قسماً من زملائهم ينعمون بمظهر أنيق يراعي خطوط الأزياء المعاصرة, بينما هم بالكاد يتدبرون ملابس لا تظهر عليها "علامات الفقر" وتجعلهم يشعرون بعلاقات "متوازنة" مع أولئك الذين تظهر عليهم "علامات الثراء".
     ولكن من أين يحصل الشباب العراقي اليوم على ملابس تنتمي للعصر وتجعلهم على إتصال ما, بإيقاع جديد ومتغاير, كالذي كانت تنتظم فيه أجيال من شباب العراق في العقود الثلاثة قبل عام 1990؟.
     تتعدد الموارد, فهناك شركات عامة للخياطة, تتفق معها الجامعات على إنتاج ملابس رجالية ونسائية يلتزم طلاب الجامعات بإرتدائها. وهناك الأسواق التجارية التي تستورد مجموعة واسعة من الأنواع, تبدأ من الرخيصة وتنتهي بالفاخرة التي تتركز أسواقها حالياً في حي "عرصات الهندية" في بغداد, وهذه زبائنها معدودون ومن الفئات التي برزت بعد حرب الخليج الثانية 1991, وهناك أيضاً أسواق الملابس الأوروبية المستعملة "البالات".

ملابس .... سقط متاع الآخرين
     بعد مناقشات ساخنة وقرارات بالموافقة على إستيرادها, ومنعها لاحقاً وصلت الى حد تدخّل المجلس الوطني العراقي (البرلمان) قبل أشهر, انتظمت أسواق بيع الملابس الأوروبية المستعملة "اللنكات" أو "البالات" في مناطق كثيرة من بغداد والمحافظات. ومعها أثيرت سجالات بين الشباب العراقي الذي بات أكثر المستهلكين لما تستورده تلك الأسواق, لا سيما انها توفر "الموديلات" الحديثة وبأسعار تبدو في متناول اليد تبدأ مع ألف دينار عراقي للقطعة وقد تصل الى عشرة آلاف(5 دولارات)
     وبحسب صحيفة "الإتحاد" الأسبوعية الصادرة في بغداد فإن هناك من الشباب العراقي من يرفض اقتناء هذه الملابس المستعملة وإن كانت من "الموديلات" الحديثة والأنواع الفاخرة, ويلتزم مبدأ "أرفض ارتداء ملابس هي سقط متاع الآخرين".
     وهناك من يقبل على شرائها من الشباب بعد أن يجري عليها عمليات تنظيف وتعقيم بعد ان كانت وزارة الصحة حذرت من احتمال نقل الملابس المستعملة المستوردة أمراضاً جلدية وأخرى وبائية, ويقول أحد الشبان من رواد سوق "البالات" في منطقة (بغداد الجديدة) انه يقوم بغسل الملابس بالماء الساخن مرات عدة وينشرها في الشمس ثلاثة أيام لتتولى أشعة الشمس العراقية الحارة تعقيمها, ولتختفي الرائحة منها.
     ومع وجود مؤشرات الى ان نسبة الإصابة بالأمراض الجلدية إزدادت في شكل ملحوظ منذ بدء التعاطي مع ملابس "البالات" على نحو واسع في العراق, يقول أخصائي الأمراض الجلدية الدكتور علي عبد الحسين الزيدي ان "احتمال انتقال الأمراض الجلدية لمرتدي هذه الملابس وارد جداً" لافتاً الى الإصابة بأمراض "الحساسية والجرب والأمراض الزهرية (التناسلية) القاتلة".

ذكريات الملابس
     رنا عبد الحميد الطالبة في جامعة بغداد, تقول انها تتطلع أحياناً في الصور الفوتوغرافية الخاصة بوالدها ووالدتها, وتتوقف عند الأناقة الظاهرة على ملابس والدتها على وجه الخصوص, وكيف انها قبل ثلاثين عاماً كانت ترتدي كل هذه الملابس الأنيقة والفاخرة, وكيف كان والدها يرتدي ما يناسب الوقت والمناسبة, وكيف انه في الجامعة كان "سبور" وكيف أصبح لاحقاً في الوظيفة أنيقاً الى درجة لا يمكن لشباب العراق اليوم ان يظهروا عليها!! وترى انها اليوم باختيارها الحجاب بينما كانت والدتها ترتدي "الميني جيب", تراعي جوانب "أخلاقية" و "اقتصادية" على حد سواء, فالظروف تغيرت, وأصبح الحجاب يستدعي تكاليف أقل, ومعه تنتفي الحاجة الى متابعة ما يستجد في الأزياء وأدوات الزينة.
     فراس مهدي يرسم صورة كئيبة, فهو يقول عن ملمحه الخارجي وما يختاره من ملابس تتناسب مع سن الشباب (يبلغ عمره 26 عاماً) انه لا يحتاج من الملابس الى الكثير, فهو يقبل بأي مظهر طالما ان عمله في بيع المواد الغذائية والسكائر على رصيف في (مدينة البياع) لا يستدعي مظهراً فاخراً على رغم انه نال قبل سنوات تحصيله الجامعي في الإقتصاد, وهو يشير الى انه في البيت يرتدي ملابس بسيطة أقرب الى الزهد تناسب وضعه الإجتماعي والإقتصادي.
     وإذا كان (شارع الرشيد) و (شارع السعدون) لأوقات طويلة, يعجّان بمحلات بيع الملابس الفاخرة في بغداد, فإن تلك المحلات أغلقت ابوابها, وخفتت أضواؤها, وتركزت الحركة على مكان واحد في (شارع الرشيد) هو (السوق العربي) وفيه محلات لبيع الملابس رخيصة الثمن, ومن أنواع كان العراقيون يأنفون شراءها فإذا بهم اليوم لا يملكون ثمنها ليشتروها.

* تقرير نشر في صحيفة "الحياة" 13 تشرين الثاني 2001



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM