القاهرة – علي عبد الأمير
ظلت فنون "المقام العربي" ميداناً غنائاً رجالياً بامتياز, حتى ان ما حاولته المطربة سليمة مراد ولا حقاً المطربة مائدة نزهت في مقاربتهما "المقام العربي" لم يسجل لهما كحضور مميز, لما يتطلب غناء المقام من طاقة صوتية لا تتوافر في الأصوات النسائية, غير ان أن الأمر بدا مختلفاً مع صوت المطربة فريدة محمد علي وما لاقته من مؤازرة بعد اجتيازها متطلبات الدراسة في "معهد الدراسات النغمية" من الفنان الراحل منير بشير, حين أشار اليها بتدريس مادة "المقام العراقي" في المعهد, ولتبدأ لاحقاً سيرة فنية طيبة منذ اقترانها بعازف آلة "الجوزة" العراقية التراثية محمد حسين كمر عام 1989 وهو كان بدأ تأسيس "فرقة المقام العراقي". وإذا كانت الفرقة تأسست من أجل "إحياء المقام العراقي والألوان الغنائية والموسيقية التراثية العراقية" فإن حضورها في "مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية" في القاهرة, أكد هذا المعنى, وجاء صوت المطربة فريدة محمد علي ليُعطي ملمحين لافتين, الأول في أداء "المقام العراقي" وفق قوالبه الدقيقة, والثاني في إضفاء ملمح نسوي على فن غنائي طالما عُرف بطابعه الرجولي الخشن.
و "فرقة المقام العراقي" (يقيم أعضاؤها حالياً في هولندا) دأبت على تقديم الفنون الغنائية العراقية في غير محفل موسيقي عربي ودولي. غير أن حضورها هذه المرة في القاهرة يأتي بلمسة لها تأثيرها الخاص, لما لمهرجان الموسيقى العربية من موقع جاذب وحيوي, وقد صارت له مكانته المميزة في الحياة الموسيقية العربية, فهو يُظهر غنى أو تنوع الألوان الموسيقية في البلدان العربية. ثمة "القدود الحلبية" الى جانب "المقام العراقي" وثمة الأشكال الغنائية الموروثة في بلدان الخليج العربي الى جانب "المألوف" في دول المغرب وبينها دائماً "الأدوار" و "الطقاطيق" والقوالب الغنائية والموسيقية المعاصرة بحسب الملامح المصرية. وبمرافقة العازفين: محمد حسين كمر (الجوزة), وسام العزاوي (السنطور), جميل الأسدي (قانون), آزاد عمر (ناي), إيهاب وسام العزاوي (رق), وعبد اللطيف سعد (طبلة) غنت فريدة محمد علي مجموعة من المقامات العراقية التي تنتهي عادة بما يُعرف بـ"البستة" وهي الأغنية الخفيفة التي تعقب المقام. وبعد تقسيم على "السنطور" هذه الآلة التي ظلت أساسية في تركيب "الجالغي البغدادي" (الفرقة الموسيقية المصاحبة لمطرب المقام), تولّت آلة "الجوزة" توجيه الصياغة النغمية, وسط إشراقات بغدادية. فالنغم لا يمكن أن يتصل إلا ببغداد وروحيتها المكانية والإجتماعية. نغم فيه زخرفة شرقية (اتصال بغداد مع إمتدادها الشرقي) وغنت فريدة "سلام على دار السلام", التي كان أبدعها مقامياً مطرب العراق الأول محمد القبانجي لتتواصل بعد ذلك "بستات" معروفة لدى الذوّاقة البغدادية "حلو حلو" و "الأفندي" كما غنت باقتدار "لما أناخوا" التي حملها صوت المطرب الراحل ناظم الغزالي لتكون ملمحاً رصيناً للغناء العراقي في فضائه العربي, ولتتوقف عند غناء "فوق النخل". وأحسنت فرقة "المقام العراقي" بتقديم فقرة في عرضها, تضمنت ما أسمته "حوار الإيقاعات العراقية" فضرب العازفون بافتتان وتنوع على الطبل, الدف, الطبلة, الرق, و "الخشبة" (الطبلة الصغيرة جداً) الآلة الإيقاعية النادرة الوجود في بُنيات نغمية وموسيقية للإيقاع, حصة كبيرة فيها. واللافت في "حوار الإيقاعات" جوانب التلاوين والزخارف فضلاً عن الإنتظام الإيقاعي والتوافق بين آلة وأخرى أو مجموع الآلات. وللتعريف بمقطوعات جعلت من الكلام على "حداثة" في الموسيقى, أمراً ممكناً, عزف الثنائي عبد اللطيف سعد (العود), وجميل الأسدي (قانون) مقطوعة "شلالات" التي صاغها الموسيقار العراقي الراحل جميل بشير, وفيها بُنية نغمية جعلت بالتعبير على حساب الطرب الذي كان سمة استغرقت فيها الأنغام كلياً في وقت كتابة بشير مقطوعته. والإنتقال من "المقام" والموروث الإيقاعي نحو "الحداثة" الموسيقية, كان منطقياً بحسب العرض الذي قدمته "فرقة المقام العراقي" ففي القسم الثاني من الحفل غنت فريدة محمد علي اثنتين من أغنيات "مجهولة" تستغرقان في روحية بغدادية حميمة وصاغهما المطرب والملحن العراقي اليهودي فلفل كرجي الذي هاجر من بغداد عام 1950, والأغنيتان "منين ابتدي شكواي" و "أخ منك" حفلتا أيضاً بإعداد موسيقي بارع تولاّه محمد حسين كمر, إذ جاءتا متدفقتين بنغم لا تخفى عناصر التجديد فيه ولكنه كان متوافقاً مع البناء المقامي الموروث. ومع أغنية "يا حمام النوح" البغدادية الأصيلة, كان توجيه النداء للعراق, وتحديداً من المطربة وأعضاء فرقتها المقيمين خارجه قبل سنوات, منسجماً مع جو حافل بالوجد والحنين, وجاءت خاتمة الحفل عبر أثر من ناظم الغزالي في "أي شيء في العيد أهدي اليك" ثم "طالعة من بيت أبوها" لتؤكد مسعى "فرقة المقام العراقي" في تقديم فن غنائي عراقي احتضنته المدينة بعمق تركيبها الإجتماعي والوجداني, وأغنته بتفاصيل معالمها.
*متابعة نشرت في صحيفة "الحياة" 7 تشرين الثاني 2001
|