عمّان – علي عبد الأمير
ظلت قضية التجديد الموسيقي شاغلة المؤلف وعازف العود اللبناني شربل روحانا, لا لكونها قضية تتعلق بالشكل, وبمدى علاقة مؤلفاته الموسيقية بالقوالب الموسيقية العربية التقليدية, وإنما كونها بيانه الموسيقي الشخصي الذي يشير الى فكرة يمكن تحديد بؤرتها في جوهر نغمي خارج القالب الموسيقي العربي والشرقي التقليدي ولكن من دون انفصال عن روحيته. وانطلاقاً من هذه الفكرة صاغ شربل روحانا عرضه بصحبة فرقته الموسيقية في "سوق عكاظ" الأردني الأربعاء الماضي وفيه تدفقت انغامه من أعماله: "مدى", "سلامات" و "مزاج علني". ولأن السياق التجديدي هو الذي يشغل روحانا, كانت الفرقة الموسيقية تنطوي على آلات تفارق بعضها الآخر, ومن خلال هذه المفارقة كان المسعى الى الخروج بتوافق نغمي, لا بل الأكثر جرأة من ذلك والأكثر اتقاناً, وهو صوغ لحن موسيقي لا ينفصل عن فكرة ايجابية لانسان بلداننا يريدها روحانا: ان يكون متطلعاً لمواكبة عصره المتغاير ولكن من دون أن يتخلى عن ملامحه وعن العناصر التي تشكّل مرجعيته الروحية, وهي هنا في حال الموسيقى, القوالب والأنغام والميلوديات. "مدى" كعمل موسيقي كتبه روحانا بالإشتراك مع هاني سبليني فيه من عناصر المغايرة الموسيقية ملامح كثيرة لجهة الإنفصال عن الشكل, ولجهة الثقة بتصويره فكرة تقوم على تلاقي أجواء غربية وعربية شرقية في نقطة مشتركة, هي ذروة تجليات الآلات الموسيقية وهي تنصهر مع رؤى موسيقيين بمزاجين, بوسيلتين في التعبير, ولكن وصولاً الى نقطة مشتركة. هنا عود روحانا برهافة عزفه على الأوتار, صريح في الإعلان عن مرجعياته ليس بحسب الصورة النمطية للنغم الشرقي العربي, بل نحو ابتكار نغم جديد. وهذا المسعى ذاته انشغل فيه بيانو سبليني, فكانت النقطة المشتركة (عود وبيانو) ينشدان تدفقهما النغمي ولكن من دون اصرار على أن يظلا مخلصين لمرجعياتهما الثابتة. الشكل الذي لا يخفي جرأته في "مدى" قد يكون لاحقاً تراجع في اسطوانة "سلامات" لشربل روحانا الذي يعوض فيها حرية الشكل, باتقان في التأليف فثمة بناء محكم في القطعة الموسيقية, لكنه ليس إحكام البناء التقليدي, وإنما تعميق اللمسة التجديدية بجوهر نغمي أصيل لا تخفى مرجعياته العربية والشرقية وحتى السلافية ان شئت. شرقي أكثر كان روحانا في "سلامات" لا في مقاربته قالب "السماعي" الذي يعد أحد قوالب التأليف الموسيقي الآلي الشرقي والعربي, وانما في صوغه نغماً ملتاعاً متأسياً شجياً, وهذه ملامح شرقية الجوهر عربية الطابع, وكي لا تظل هذه الملامح مادة خاماً وراكدة, راحت رؤية روحانا التجديدية تشتغل, فالتمعت الأنغام منبثقة من تراكم مرجعياتها. فهو حين يلعب موسيقى "محلا نورها" فإنه يقدم تنويعات على لحن الأغنية الأصلي, فمن رعشة العود الى (شمس) مشرقة راسخة في البال كما تقول الأغنية (شمس الشموسة) كأنها تطلع من الصوت الصادح البهيج للأوكورديون والتنويعات الرشيقة للإيقاع وفق الرق الذي يكاد يرقص نشواناً من الطرب. الطرب الفيّاض بروحية تجديدية, هو جوهر موسيقى محمد عبد الوهاب, وهذه لمحة يشترك فيها شربل روحانا مع رمز التجديد في الموسيقى العربية ويجسدها في إعادته لقطعة عبد الوهاب "بلد المحبوب", وبرفقة عوده وتدفقات صوت الأوكورديون والضبط الإيقاعي الرشيق, تأتي القطعة جديدة مرتين, جديدة لأنها خرجت عن شكل الأوركسترا الكبيرة الذي كانت عليه القطعة الأصلية, وجديدة لأن بناءها لا يطابق الأصل تماماً, فهي تبدو قطعة لفرقة موسيقية صغيرة مركزها آلة العود. "سلامات" شربل روحانا التي عزف منها في إطلالته الأردنية, عمل موسيقي يستحق أكثر من هذه السطور, فهو يلخص فكرة التجديد وجدواها, فكرة الإخلاص للموروث والإنطلاق منه في آفاق تعبيرية جديدة. كذلك فيه براعة المؤلف الموسيقي مثلما فيه فكرة العازف على العود, أهو جيد لحرصه على البراعة المقامية وإحكام الأصول والقوالب, أم أنه متميز لبراعته في إضفاء طابع روحي على العزف؟ وفي حين عزف روحانا من اسطوانته "مزاج علني" فإنما يحيل سامعه الى منطقة جديدة في تجربته. ففي الإسطوانة من "مدى" جرأة المغايرة وتجدد الأنغام مثلما فيها من "سلامات" إحكام الشكل والجوهر المستغرق في الروحية الشرقية العربية. في مقطوعة "سوار" تصوير لبهجة طافحة, وتعبير عن سعادة غامرة وروح نشوى, وكل هذا يبدأه روحانا بعزفه المتقن على العود, ومستوى لا يقل عن هذا لباقي الآلات. انه تجديد نغمي لا يتم عبر الخداع وإرتداء الأقنعة, انه يقترح أنغاماً ولكنه لا يخجل من إعلان الحفاوة بمرجعياتها الشرقية العربية. كذلك هو أمر مقطوعة "فلامنكو", وفيها جاور روحانا اللحن الإسباني الذي يشير اليه العنوان, انطلاقاً من مجاورة لحنية عربية عبر اتصال وحوار ما كان منبهراً إلا بقدرته على التعبير الخاص والحميم, ومن دون جعجعة, كان ينقّب في الجذور العربية لذلك اللحن الإسباني. وسعي شربل روحانا الى التجديد, وصوغ موسيقى تنتمي الى الجوهر والموروث لكن من دون إنغلاق على الحياة ومنعطفاتها بل وحتى أحداثها العاصفة, هو الذي دفعه الى اجتراح مغامرة التلحين. ففي عمله الجديد "كي لا ننسى ... محمد الدرة" الذي لحنه وغنّاه اعتماداً على نص محمود درويش, انعطاف نحو قراءة موسيقية للكلام, ونحو بناء موسيقي لا يتوقف عند لغة الآلات وحسب, وانما يتسع لدور الصوت البشري في الغناء. روحانا الذي إعتاد اجواء الفرقة الموسيقية الصغيرة ينفتح على أفق الأوركسترا السيمفوني, يوزع ويدخل الكورال, ويحدد أي مقاطع من النص الدرويشي يؤديه (هو ليس بالمطرب المحترف) وأي مقاطع تلقيها إلقاءاً جوليا قصّار. وقبل كل هذا, يفاجيء روحانا مستمعيه بمقدرة لافتة على التلحين وعلى مقاربة النص الشعري العربي المعاصر موسيقياً. لم يذهب الى قالب غناء القصيدة, مثلما لم يخالف نهجه في الإرتكاز على مستندات موسيقية عربية, وهنا في إسطوانته لم يبد روحانا مأخوذاً بفخامة البناء الأوركسترالي, بل أدخل أكثر من ثيمتين لحنيتين موروثتين شعبيتين من أنغام فلسطين وبلاد الشام, لتبدو الناحية التصويرية للحدث: الإنتفاضة الفلسطينية انطلاقاً من مشهد إغتيال محمد الدرة, أكثر دقة وتركيزاً.
|