كاظم الساهر في جرش 2001 :أداء موسيقي رصين وألوان غنائية متقنة

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       04/06/2010 06:00 AM


عمّان – علي عبد الأمير

ازدحمت مدرجات "المسرح الجنوبي" في مدينة جرش التاريخية بجمهور غفير على مدى ليلتين غنى فيهما المطرب العراقي كاظم الساهر وهو يحرص دائماً على منح حفلاته الغنائية إيقاعاً رصيناً لا يقل في جودة موسيقاه وضبط الصوت الغنائي على المستوى الذي تأتي وفقه الأغنيات في الإسطوانة, ما يعطي حفلاته طابع العرض الموسيقي – الغنائي المتقن, وتكفي نظرة الى الفرقة الموسيقية الكبيرة المصاحبة للساهر (يقودها عازف القانون حسن فالح وتضم خيرة عازفي العراق على الآلات العربية والغربية) لمعرفة أي أهمية يوليها الساهر للجانب الموسيقي في حفلاته الغنائية.
حيا الساهر الجمهور, حين اختار شعر اغنيته "القدس" منشداً صوراً عميقة المعنى عما تشهده المدينة العربية من مواجهات إثبات الهوية, وفيما فضّل تقديم الأغنية كشعر ملقى, انتقل الى غناء "سلامي" التي تشير الى أشواق تنادي المغتربين وما أكثرهم من أبناء العراق اليوم.
وفي غنائه "كل عام وانت حبيبتي", قدم الساهر طراوة في الأداء مثلما قدمت فرقته الموسيقية اتقاناً في العزف حتى أصبح الجمهور حاضراً في عرض موسيقي رصين أكثر مما هو حاضر في عرض غنائي كالذي تتداوله المهرجانات الغنائية العربية المعروفة.
ومن جو كهذا انتقل الساهر الى غناء "سألتها" حيث الطراوة الإيقاعية والكلام الشائق المعنى وقد كتبه الأمير عبد الرحمن بن مساعد.وما زاد الأغنية وقعاً, ترديد الجمهور المتناغم لكثير من مقاطعها, وغناء الساهر موالاً أظهر فيه قدراته الصوتية ومدى إجادته أصول الغناء العربي.
وإستدعى لحن الساهر لقصيدة "أبحث عنك" للشاعر مانع سعيد العتيبة, بناءاً ايقاعياً مركباً أبدع في عزفه على "الكيبورد" العازف المتمكن فاضل فالح, وهو يجعل هذه الآلة أكثر قرباً الى ذوق المستمع العربي على رغم بنائها الغربي.
ولأن الساهر يعرف جيداً كيف يقود إحساس جمهوره ويوجهه نحو مناطق تعبيرية فهو أعاد غناء "موضحكتك" ولكن وفق صوغ مختلف, فالأولى كانت أسرع ايقاعياً, والثانية أبطأ ما وفر لصوت الساهر فرصة لإظهار الجانب العاطفي في كلام الأغنية ولحنها.
وعلى رغم تعبيرية عميقة في أغنية "بعد الحب" لحناً وكلاماً (الساهر وكاظم العراقي) إلا ان السؤال المجروح "وين الإنسان بداخلنا / وين / كلنا بدم خلّ نبكي عليه" وجد استجابة أعمق لدى الجمهور الذي راح يتناغم مع آهات الساهر وهي تصاعدت لتصل درجة من التألق الأدائي في الصوت والألحان مع أغنية "أنا وليلى" (شعر حسن المرواني), وفيها أنشد كورال من خمسة آلاف شخص مقاطع بدأت من "أضعت في عرب الصحراء قافلتي" وصولاً الى "نُفيت واستوطن الأغراب في بلدي", ولتتشكل لوحة من الأداء الغنائي والموسيقي الرفيع, عناصرها: الساهر, والفرقة الموسيقية, والجمهور.

المشروع الغنائي
الساهر الذي يمضي قدماً في مشروعه الغنائي العربي الرصين, وجديته الواضحة قياساً بما هو سائد في المشهد الغنائي العربي جعلته جديراً بما ناله من تقدير واحترام في محافل موسيقية وثقافية عربية (مَنَحه "المجمع العربي للموسيقى" درعه الفنية تقديراً لما بذله صاحب أغنية "لا يا صديقي" في تعزيز ملامح الرصانة في الأغنية العربية المعاصرة) وأجنبية (منحته "يونيسكو" شارتها لما بذله من تعزيز الملامح الإنسانية العميقة في أغنيته ولتذكيره بمعاناة أطفال العراق ورفعها من مشهد المأساة الى موقف إنساني احتجاجاً ضد الموت ووسائله, نتذكر هنا أغنيته "تذكر" وأغنيته الرقيقة عن بغداد وآلامها "كثر الحديث"), هذا الساهر وفي أداء نشوان غنى "الليلة إحساسي غريب" (شعر طلال الرشيد) قبل أن يُفاجأ بالجمهور وهو يردد معه "ممنوعة أنت" (نزار قباني) وهي أغنية ليست سهلة في لحنها وتركيبها الموسيقي.
وانتقالاً من "هدوء رومانطيقي" عززه اللحنان السابقان, إنفتح فضاء المدرجات على رقصات متناغمة كانت تحاكي رقص الساهر وأعضاء فرقته على ايقاع لحن "الجوبي" الذائع الصيت في العراق.
ووفق هذه الثنائية: قصيدة ثم أغنية شعبية, غنى الساهر "الحب المستحيل" وأبدعت في عزفها الفرقة الموسيقية, مثلما كان الجمهور مأخوذاً بصوت الساهر وهو برفق أسماعه بالعاطفة الرقيقة التي يعززها شعر نزار قباني, قبل أن ينتقل الى لحن ايقاع راقص في أغنية "أغازلك".
 
صور إنسانية
صاحب أغنية "أنا وليلى" جاء جرش بعد عملين غنائيين جديدين, الأول مثلته اسطوانة "أبحث عنك" والثاني عبر أغنية حفلت بصور إنسانية رفيعة عن القدس, كتبها الشاعر مانع سعيد العتيبة, وبلغت مستوى من التعبير الموسيقي الرفيع, انسجم بين ما هو "وطني" مؤثر و "إنساني" يخلد المشاعر التي تتسع لأكثر من علاقة حب بين امرأة ورجل, وتنفتح على قراءة للأرض وللمصير الإنساني فيها, وفي حال القدس فإن المعنى يصبح مقدسياً, وتصبح وقائع الدفاع عن "زهرة المدائن" دلائل تحفز الإبداع الغنائي والموسيقي على الإبتكار.
وهو ما فعله الساهر في أغنيته عن المدينة العربية المقدسة, وجعل من أنغامه مزيجاً من الرقة والأسى ونشيد المقاومة المتصاعد.
ألوان الغناء الشعبي, وغناء القصيدة, والغناء الوطني – الإنساني برع في ادائها كاظم الساهر فحقق مرة أخرى في "جرش" حضوراً يذكّر بعصامية قل نظيرها, فهو الذي حفز حضوره وميزته الفنية في صخر صعوبات لا تحصى.

*متابعة نشرت في "الحياة" 18 آب 2001



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM