عمّان – علي عبد الأمير
توافرت في الدورة العشرين لمهرجان جرش للثقافة والفنون أنماط مختلفة في الغناء والموسيقى عما هو سائد في المشهد الغنائي العربي, فجذبت إليها الإهتمام لا لمغايرتها فحسب وإنما في تقديمها مستويات عنت بالبناء الموسيقي ولم تتوقف عند "نوايا" الإختلاف. السوري بشار زرقان نجح في اختبار موسيقي – شعري قد يكون الأصعب في مسيرته الفنية من خلال بناء غنائي موسيقي قارب فيه "جدارية" محمود درويش, زرقان الذي عُرف صديقاً لجرش (شارك في دورات المهرجان السابقة) جاء صحبة فرقة موسيقية: ستة عازفي كمان, عازف كونتر باص, عازف ناي, عازف إيقاع, عازف عود, عازف قانون, وكورال تكوّن من ثلاث منشدات وأربعة منشدين, مما أسهم في خلق بُنية موسيقية قاربت في غناها, التركيب العميق لنص درويش. في الصوت كانت هناك ثلاثة تنويعات: الأولى مثّلها صوت زرقان ذاته الذي إعتمد في غنائه توقيعاً للكلمات, وكان هناك صوت المطربة اللبنانية سمر كموج التي عُرفت باتقان القوالب الغنائية الكلاسيكية العربية (غناء عبد الوهاب, أسمهان وأم كلثوم), وأصوات الكورال التي قدمت إستجابة لفكرة تعدد الأصوات في دلالات النص الشعري, ومن الأوجه المتعددة لموضوعاته: الحياة/ الموت/ الإنسان الفرد/ تكوينه الجماعي, والصوت المتوحد المجروح/ الهتاف الذي يقارب الضجيج. موسيقياً أبرزَ زرقان الذي صاغ لحن مغناته الدرويشية الجديدة, جانبين في غاية الأهمية, فهو عبّر عن روح النص الشعري من دون أن ينسى جانب التلوينات اللحنية, وأسهم التوزيع الموسيقي الذي تولاه فادي خنشت في إعطاء اللحن بُعداً, تصويراً مرة, وتطريباً في أخرى, كما انه راعى ان تكون الآلات الموسيقية قريبة في أصواتها مع التركيب الصوتي لمقطع من القصيدة من دون غيره, الآلات المنفردة لعبت دورها في صداقة الكلام, فهي متوترة وحيدة حين الشعر يمضي "سأصير يوماً ما أريد/ إيقاع فكرة لا سيف يحملها الى الأرض اليباب", وهي تخلي وحدانيتها لتناغم آلات الأوركسترا والإنشاد الكورالي, حين الحياة ينتصر لها درويش "هزمتك يا موت الفنون كلها/ وأفلت من براثنها الخلود".
غناء من فلسطين قدمت فرقة "صابرين" الفلسطينية درساً في جرش, جديراً بأن يتعلم منه موسيقيون ومغنون درجوا على وصف أعمالهم بـ"الغناء البديل" أو "الموسيقى المختلفة" وغير ذلك من التسميات, فغنّت كاميليا جبران بصوت عذب خضبته الآلام والآمال, ولحن سعيد مراد الحاناً مبتكرة لا تتقاطع مع الموروث النغمي العربي الأصيل. الوطن كان حاضراً شفيفاً عذباً من دون شعارات ولا جعجعة فارغة, الأرض حضرت عبر اللمسة الإنسانية, ودائماً في قوالب موسيقية لا تبالغ في إفتراقها عن ذائقة المتلقين السائدة, فكانت الرسالة الإنسانية للفرقة ودفاعها الحار عن كل ما هو حقيقي منسجمين مع غناء لا يخجل من الطرب العربي, ومع قوالب موسيقية وغنائية عربية تنهل من الكلاسيكيات وان بدت منفتحة على روح موسيقى (الجاز) وارتجالاتها في الغناء والعزف, وعلى موسيقى (البلوز) في جوهرها النغمي القائم على تحويل المعاناة اليومية الى شجن عميق. غنّت كاميليا جبران "هالكان عندن بيت" للشاعر الغنائي الرقيق طلال حيدر, كذلك "شجر البن", كما غنّت, ودائماً وفق موسيقى سعيد مراد, من شعر المصري سيد حجاب "في سكوت الليل", "البحر" و "غنا". وجاءت قصيدة "لحظة" لفدوى طوقان, جوهرة حفلة فرقة "صابرين", ففي غناء كاميليا إجادة لقالب غناء القصيدة من النطق السليم للمفردات وتوقيعها الرشيق الى عُرَبْ في الصوت وحسوبة ودونما إفراط, وفي اللحن يبدع سعيد مراد في إستعارة شكل "السماعي" (أحد أشكال التأليف الموسيقي الآلي العربي) مازجاً به مع قالب غناء "الموشح" ومتصلاً بالإثنين مع فضاء مبتكر من حرية أنغام الجاز, هنا تبتكر الفرقة مقاربة خاصة بها لغناء القصائد, فهي ضمن الريبرتوار النغمي ذاته تقارب قصائد محمود درويش وسميح القاسم مبعدة عن شعرهما المغنى "غرابة" و "جفافاً" غالباً ما يقع فيهما موسيقيون ومغنون فلسطينيون وعرب يتصدون بألحانهم لشعر هو يفيض أصلاً بالموسيقى!
أغنيات دموية! على النقيض من نسيج غنائي – موسيقي متماسك في عرض فرقة "صابرين" غنّت الأردنية (الفلسطينية) عايدة الأمريكاني, قصائد من سميح القاسم, شهلا الكيالي, حيدر محمود وعلي البتيري عالجتها الحان حفلت بالمارشات والإيقاعات القوية, وحاولت الأنغام المتصاعدة حد الضجيج ان تقرأ نصوصاً دموية بامتياز مثلما في قصيدة "هكذا مضى", وفيها تغني الأمريكاني "ما أطيب رائحة الأرض/ يرويها شلال دماء"! ولأنها على يقين من ان الإنتصار للإنتفاضة ولوقائعها يعني حشد أكبر عدد من صور المواجهات الدموية في الأغنيات, أبعدت الأمريكاني الأوركسترا من حفلتها الغنائية, ولتقدم اغنياتها على موسيقى مسجلة "بلاي باك" فيما كانت هناك "قراءة بصرية" مثلتها صور تلفزيونية عن أحداث الإنتفاضة, ليبدو المشهد وكأنه مأخوذ من نشرات إخبارية متلفزة فيما الصوت الغنائي خلفية تزيد المشاهد الدموية عنفاً وصراخاً! في عرضها التعبيري الراقص الأول, قصدت فرقة "إنانا" السورية تقديم قراءة بصرية تعبيرية لوقائع الظلام والإضطهاد الذي عاشته بلاد الشام تحت السيطرة العثمانية كاشفة ضمن نسيج العرض الذي حمل عنوان "هواجس الشام 88" عن قصة حب وفساد حكم ومعاناة أهل التنوير والمعرفة عبر رمز عميق الدلالة, هو الرائد, أبو خليل القباني الذي عُرف أباً للمسرح السوري. نص العرض الذي شهده "المسرح الشمالي" في جرش كتبه محمد عمر, فيما تولى التأليف الموسيقي والتوزيع محمد هباش وتصميم الرقصات "كريوغراف" مسؤول الفرقة وراقصها الأول جهاد مفلح (كان عمل مع كركلا), وجاء العرض في فصلين الأول حمل تمهيدات لوقائع حياتية من بلاد الشام أثناء الإحتلال التركي, مظهراً من خلال رقصات كان بعضها موحياً ومكثفاً وآخر فضفاضاً, العقائد الدينية والإجتماعية ولتتركز انطلاقاً منها حكاية الشاب (رسلان) وحبه للفتاة (بدرية) الى جانب حكايات فرعية عن الناس ومعاناتهم من ظلم السلطة التركية الحاكمة وصولاً الى "إشراقة" نصر عربي تمثل في "الثورة العربية". ما يحسب لعرض "إنانا", استخدامه رائد المسرح في سورية, أبي الخليل القباني رمزاً نهضوياً وتنويرياً في فترة أُريد فيها للناس ان يخضعوا للجهل والأمية, وظهر القباني في لوحتين موحيتين في فكرتهما وتنفيذهما. وفي لوحة "شعائر الطرد" يكتمل مشهد الظلم الذي يتعرض له أصحاب الفكر التنويري والإضطهاد الذي يشهدون ألوانه, ففي طرد أبي الخليل القباني, طرد للمعرفة والتنوير, ومحاولة من القوى المسيطرة على الحراك الإجتماعي والقامعة له في الدفاع عن مصالحها التي تهددها المعرفة والتنوير, في الفكر والفن.
* متابعة نشرت في صحيفة "الحياة" السبت 4 آب 2001 |