عمّان – علي عبد الأمير
تعترف بها مؤسسات الدولة وترى انها "مشكلة خطيرة" غير انها ما ان تتولى بحث وسائل حلها تكتفي بـ"ذريعة مثلى" فتقول ان ظروف الحصار فاقمت البطالة, مشيرة الى ان الشباب من حملة الشهادات الجامعية يعملون في مهن "لا تناسب تحصيلهم الدراسي مما يولِّد خسائر كبيرة للإقتصاد الوطني" بحسب صحيفة "الإتحاد" الأسبوعية الصادرة في بغداد. "لجنة الشؤون التجارية والإقتصادية" في المجلس الوطني العراقي (البرلمان) أعلنت عن "المقترحات الهادفة الى إنهاء مشكلة البطالة", فيما نقلت مصادر في وزارة العمل والشؤون الإجتماعية ان تقديرات أولية كانت اعتمدتها الوزارة في قراءة البطالة وتفشيها بين شباب العراق, توصلت الى ان نحو 45 في المئة من القادرين على العمل في العراق لا يجدوا فرصة عمل, فيما ربطت وزارة التخطيط العجز الحكومي عن إيجاد حل بظروف الحصار التي أوقفت الكثير من المصانع في القطاعين العام والخاص, وقلّصت مستويات العمل في ميادين الوظيفة العامة, لافتة الى ان تحسن فرص العمل مرتبط بإعادة العراق, العمل بالخطط الخمسية, المتوقفة منذ الحرب العراقية – الايرانية. من جهتها بدأت منظمات الطلبة والشباب في العراق تنفيذ مشروعات اقتصادية شجعت من خلالها أعداداً من الشباب, غير ان خططاً كهذه ظلت غير مثمرة لجهة التضخم الإقتصادي في العراق الذي يتصاعد وفق طفرات متواصلة ما جعل عوائد العمل في تلك المشروعات غير ذي جدوى, على رغم كونه يظل "أفضل" بالمقارنة في العمل داخل مؤسسات الدولة ومشاريعها الإقتصادية والخدمية. مهندسون شباب وجامعيون من كل الإختصاصات تفننوا في إيجاد فرص عمل لا تحتاج دراسة أو شهادة جامعية, فكانت الأرصفة مكاناً مفضلاً لهم, يعرضون فيها مأكولات وملابس وسجائر وقطع غيار أدوات كهربائية منزلية وسيارات ومواد غذائية في أسواق: "الشورجة" و "علاوي جميلة" و "الباب الشرقي" و "البياع" و "الكاظمية" في بغداد فضلاً عن فرص عمل توفرها عقود بيع وشراء لكل شيء, فهم وسطاء في بيع السيارات والمنازل والأثاث, والحصول على أوراق رسمية, ووسطاء في صفقات المواد الغذائية, من المحافظات الى بغداد وشركاء في محلات تصليح لأجهزة ما زال يستخدمها العراقيون على رغم قِدَمها, ووسطاء في عمليات بيع وشراء العملة الصعبة وتحويلاتها, وشركاء في محلات بيع الكومبيوتر والأقراص المدمجة. مهندس عراقي تحول الى التجارة مع الأردن وأسواق سورية ولبنان والإمارات, يصف تلك الأعمال بأنها "بطالة مقنعة" فهي لا توفر عائداً مالياً, ولا تسهم في تراكم خبرة عملية ناهيك عن كونها "إستنزافاً عقلياً" لمئات ألآلاف ممن حملوا شهادات جامعية كانت الآمال تحدوهم في إقامة حياة طيبة تتناسب مع معارفهم, مؤكداً ان معدل (2000 – 3000) دينار يحصل عليها الشاب من ساعات عمل يومية طويلة تمتد الى 12 ساعة احياناً لا تعني شيئاً فهي تعادل (دولار أو دولار ونصف), وعائد كهذا لا يوفر إلا قوتاً يومياً لا اطمئنان لمستقبل معه ولا حياة آمنة. واذا كان هناك من يجد عملاً يومياً يعود عليه بقوته اليومي, فإن هناك من الشباب العراقي من لا يجد مثل هذا العمل أصلاً, وكان "التطوع" في "جيش القدس" الذي قالت عنه السلطات العراقية انه يتكون من ستة ملايين عراقي, فرصة للتعويض, فالشاب "المتطوع" يأخذ راتباً شهرياً قدره 30 ألف دينار خلال فترات التدريب المتواصلة نحو أربعة شهور, ولكن هذه الفرصة تظل موسمية ولا تمثل حلاً بعيد المدى, كالذي يوفره العمل في "فدائيي صدام" وفيه يُمنح "المتطوع" راتباً شهرياً يصل الى نحو 50 ألف دينار وهو ما يعادل خمسة أضعاف راتب الموظف الحكومي. وحيال ظروف أزمة كهذه تكون الهجرة حلاً يسعى اليه الكثير من الشباب العراقي, وطرق الهجرة تتنوع فثمة الهجرة التي اتسعت في العامين الأخيرين الى الإمارات وقطر, ولكن الطريق الى الأردن ولاحقاً سورية هي طرق الهجرة الأولى والأكثر إستيعاباً لهجرة مرّ من خلالها نحو أربعة ملايين عراقي تركوا البلاد بعد كارثة حرب الخليج الثانية 1991, ومن العاصمتين العربيتين تبدأ هجرات لاحقة تنتهي في أحد بلدان اللجوء في أوروبا وأميركا وأستراليا ونيوزيلندا. المهندس الزراعي حسين طه يتحدث عن ظروف عمل مهينة قضاها في فرن للخبز وفي مطعم للمأكولات السريعة بعد إنهائه الخدمة العسكرية, حتى توصل الى ان الهجرة حل لابد منه, وهو بعد أكثر من تجربة للعمل "تحايلاً" على قوانين العمل في الأردن التي تمنع غير الأردنيين من العمل, وبعد مساعدة أصدقاء وأقارب سبقوه الى الهجرة في أوروبا, يشير الى آمال قد تبدأ مع وصوله الى مكان آمن "متذكراً سنوات شبابه ما بين سن 23 – 30 عاماً وقد ضاعت في مكان يصفه "جعل الحياة جحيماً" ومع آهة عميقة يطلقها المترجم و الإقتصادي صالح مهدي الذي كان نال شهادة ماجستير في "اقتصاديات الدولة في الميدان الزراعي", يشير الى نوع من الهدوء والإحساس بالأمان مع قبوله "لاجئاً" وبدء إستعداداته للسفر الى الولايات المتحدة, لكنه مع صبره وجَلَده لا يخفي ان حياته لم تعد ذا معنى وانه مضطر للهجرة لأنها الحل الوحيد, وانه "أقبل عليها من أجل" أطفاله الأربعة ومستقبلهم. في "سوق الجمعة" الذي يتوسط "ساحة العبدلي" وسط العاصمة الأردنية, شبان عراقيون يعرضون خدماتهم لمرافقة المتسوق وحمل ما يبتاعه في سلة كبيرة في مقابل ربع دينار أو كل ما تجود به يد صاحب البضاعة المشتراة, من بينهم كان موظف سابق عمل نحو 15 سنة في "المديرية العامة لترية بغداد" والذي يقول ان اوقاته في عمّان وعمله فيها مريرة وابتعاده عن العائلة تزيدها حزناً, لكنه يشير الى انه يعوض عن ذلك بما يرسله من مال يحصل عليه ويخفف من معاناة العائلة مردداً مثلاً شعبياً عراقياً مفاده "ما الذي يجبرك على المر غير الذي اكثر مرارة منه". في مقهى للإنترنت في عمّان يعمل محمد ابن الشاعر العراقي المعروف حسب الشيخ جعفر وهو يرى في عمله فرصة لتطوير قدراته التقنية في مجال تقنية المعلومات على أمل ان يكون ذلك زاده في رحلة هجرة الى مكان بعيد. صيف عمّان وقت عطلات المهاجرين العراقيين الذين يلتقون عوائلهم القادمة من بغداد, وفرحة اللقاء ليست للأشواق وحسب بل لمناقشة فرصة العمل في الخارج, وفرص الهجرة النهائية إن أمكن, حتى ان الهاجس المتعاظم للعراقيين في الهجرة بات ينتظم فيه الرجال والنسوة المتقدمون في العمر, فالكل يقول بعنا كل شيء ونرغب في الوصول الى مكان جديد. أساتذة جامعيون قادمون من ليبيا ودول الخليج, ومهاجرون من أوروبا واستراليا والولايات المتحدة تكتظ بهم فنادق عمّان وشققها المفروشة مع عوائلهم القادمة من العراق, ولا حديث يعلو على حديث الهجرة, فيما يكون الحديث عن أمل في العودة الى الوطن حديثاً خافتاً بل يكاد يكون غير مسموع!!!
* تقرير نشر في صحيفة "الحياة" 28 آب 2001
|