اختار الموسيقار الفرنسي جان ميشال جار "احلام الشمس الاثنا عشر" عنواناً لعرضه الموسيقي الذي شهدته الاهرامات في مصر: الاثر الانساني والحضاري الشامخ، والذي بدأ قبل دقائق من نهاية القرن العشرين ليتواصل حتى خيوط الفجر الاول للألفية الجديدة.
واستمدت جار فكرة العرض من العقائد المصرية القديمة التي تقول بان الشمس هي رمز الخلود والخير والتي تمر منذ غروبها الى شروقها بـ(12) بوابة حتى تولد من جديد في الفية جديدة.
وتمثلت احلام الشمس الاثنا عشر في رموز توالت خلال العرض المبهر الذي اختلطت فيها موسيقى جار الاليكترونية بالاضواء والليزر وبموسيقى مصرية وعربية تقليدية الى جانب رقصات معاصرة وموروثة.
وكان الحلم الاول "الصخرة" وفيه الشمس تحلم بالزمن، و"المنزل" وفيه تحلم بالحماية، و"الشجرة" وتحلم فيها الشمس بالحكمة "والسفينة" وتحلم فيه بالخلود و"الجسد" وتحلم بالولاء و"الصوت" وتحلم بالذاكرة و"الدم" وتحلم بالشجاعة و"السماء" وتحلم فيه الشمس بالفضاء و"الطفل" وتحلم فيه بالبراءة و"الجرس" وتحلم بالبهجة و"الثلج" وتحلم فيه بالنقاء و"البوابة" وتحلم فيه الشمس بالحرية.
واعلن المؤلف الموسيقي الفرنسي جان ميشيل جار انه سيقيم عرضه الموسيقي عند سفوح الاهرامات بمصر وعلى مدى (12) ساعة متواصلة نصفها هي الساعات الاخيرة من القرن العشرين ونصفها الاخر هي الساعات الست الاولى من القرن الحادي والعشرين، اي ان العرض سيبدأ من غروب اليوم الاخير من قرننا الحالي وينتهي في الفجر الاول للالفية الثالثة.
وقبل تسليط الضوء على موسيقى جار الذي عرف باستعراضاته من اماكن شهيرة من عالمنا، التي تختلط فيها اضواء الليزر بالرسوم التي تبثها وسائل بصرية متطورة لا تقل تأثيراً عن الموسيقى التي تنبعث من آلات تعتمد في الغالب تقنيات الكومبيوتر والهندسة الاليكترونية، لابد من التوقف على قوة الفكرة في العرض المقبل لجان ميشيل جار وما يحمله من ايحاءات: الاهرام، الاثر الانساني الشامخ، والموسيقى الجديدة المفارقة لاشكال وتعبيرات كلاسيكية جنباً الى جنب في اشارة قوية لاستمرار الحياة واتصاله مراحلها في تضافر يحتاجه صنع المستقبل.
وجان - ميشيل جار هو، ابن الموسيقار الكبير "موريس جار"، اعظم واضع للموسيقى التصويرية في السينما المعاضرة: وضع الموسيقى للفيلم "دكتور زيفاغو" و"عمر المختار" وغيرهما وهذا الفنان الشاب والبارع، استطاع ان يطوع التقنية لمفاهيمة في العمل الموسيقي، لان ان تكبله هي بحدودها (الالية) وبذلك اراد ان يفتت ذلك الاندراج المخيف للانسان تحت سطوة الالة والخروج بالتالي من عزلة الموسيقى (كنتاج ثقافي يتسم بالحلمية) الى نحو تكون فيها اكثر التصاقاً بمشاعر الانسان اليومية، كونها عنيت بموضوعة تعبيرية يجابهها في كل لحظة.
ان هذا الموسيقي يمثل المرحلة التالية والناضجة من اتجاهات الموسيقى العالمية المعاصرة -الموسيقى الاليكترونية- تحديداً، وهو غالباً ما يقيم مشاريع تأملية للعالم وشجونه موسيقياً! حيث الجرأة والتفرد، فهو يكاد يكون اوركسترا مختزلة!، حين يجلس الى جهاز (توليفي تركيبي Synthesizer ) مع عقل اليكتروني يبرمج كل ما في الموسيقى من اصوات الاتها، وكل ما في الطبيعة من اصوات ايضاً! ويكفي هذا المبدع انه كان يحدث ضجة في كل عمل يقدمه.
"اوكسجين" …لارض تختنق!
عمل مكتوب بست حركات، وبرؤيا شمولية للعالم، انه بحق بانوراما المشاعر الانسانية في دوامة اضطرابها المعاصرة، هكذا نستطيع ان نقدم لاول الاعمال البارزة للموسيقي جان- ميشل جار والذي حمل عنوان "اوكسجين ".
اولى الحركات الست تبدأ بتصوير حالة هي اقرب الى التأمل المجرد والمشوب بالحذر، هناك لحن مشرق وصورة تقريبية لانسان يخوض غمار حياته. غير ان الحذر يقترب ويتضح عبر اصوات تأتي من بعيد حاملة معها نذير صخب وكأنه موج يضرب ساحلاً صخرياً، يتكرر هذا ومن ثم تأتي النوارس بصوت رقيق يتعالى، مشيراً الى رمز حياتي ناعم، هذا التناغم مايلبث ان تهدده اصوات عنيفة تحمل في متتالياتها شيئاً من عويل واهات طويلة، تنتهي بضربات تأذن باصوات قصف وقذائف تأتي من بعيد، انه بالتأكيد، الاصطدام بين دفق الحياة واشارات صوت الامواج وقد علتها صيحة النوارس لتطغي على كل الاصوات العاصفة، لكنه قدم عمله كرؤية لاحزان شمولية يعصف بالارض، وما الغلاف الذي ضم الاسطوانة وتصميمه الاخاذ الا تأكيداً على ذلك، فهو يقدم الكرة الارضية وهي متصدعة القشرة، لتظهر داخلها جمجمة بشرية. هكذا قدم المؤلف كوكبنا وكأنه وعاء كبير للموت!
درس في ثقافة الاتصال
صار العالم بكل شتاته البعيد، واقوامه البشرية بمثابة (القرية الاليكترونية)، فاجهزة الاتصال المعاصرة بامكانها نقل اي فعالية في العالم الى طرفه القصي الاخر وبالعكس. وذلك لايتوقف على الاحداث والمنعطفات الهامة في الحياة المعاصرة حسب بل يشمل افاقها الفكرية وثقافتها ايضا. بل ان الثقافة الغربية ذاتها حين تجد في (الاخر) الموزع على قارات اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية اذا ماتمت في قراءة اتصالية لاتعرف اوهام الهيمنه وافكارها التسلطية والبشعه مايخدم تلك الصيرورة، فهي تلجا لذلك وتختفيى به ايضا والموسيقى جان-ميشيل جار يعي ذلك جيدا، ولايرى في (فرنسيته) امتيازا مؤثرا فهو استطاع وعبر قدرته الفنية الكبيرة ان يقدم في (الصين) خلال رحلته المهمة لها عام 1982 عدة عروض شيقة لمعزوفاته الموسيقية ممزوجة بتاثير ضوئي من (الليزر)ولم يتوقف عند انتزاع الاعجاب من الملايين حسب–على صعوبة ذلك حيث عرفت الصين بابوابها المغلقة امام التيارات الاخرى ولفترة طويلة . بل انه استطاع اقناع الفرقة الوطنية السمفونية الصينية بتقديم اعمال مشتركة كانت موضوعتها تاخذ من التراث الموسيقي المحلي للصين ومنها (سفن الصيد الصينية القديمة).
ان هذا الفنان يتطور مع كل عمل له، ويعنى بحرفية الاداء ويعمق من قدرة التعبير في التاليف، فهو دائما مايصور انطباعاته عن بلاد معينه وطقس معين .. وينقب في الحضارات قديمها وحديثها، رموزها ومايكون صالحا لنقل روحيتها والتعبير عنها موسيقيا كل ذلك عبر ذهنيته المتفتحة ، ويضع تلك الرؤى جاهزة للاتصال مع الاخرين.. وهو عبر عمله المهم (Zoo Look ) 1984، قدم مقطوعة جميلة تطوف في مدارخصب على لغات العالم ودلالات الاصوات ورمزيةالايقاعات عند شعوب الارض، ولخص بذلك درسا جميلا في ثقافة الاتصال التي تجد هذه الايام سوقا تنظيريا رائجا..فقدم في اول اجزاء العمل،تطوافا على اصوات ومفردات لاقوام شتى، وسط انبعاثات توسع من مساحة الذهن، وكانها تنبع من سديم .وصوت اخر ينتهي لبعد قصي . وتاتي الحركة الثانية وثمة قطرات من ماء تنزل ببطء وكانها تسقط من اوراق شجرة كانت عالقة بها وسط غابة استوائية! وتتداخل ضمن مشهد سقوط القرات المائية، اصوات عديدة تتداخل مع بعضها، لامراة وصوت بدائي لرجل وطفلة كانها تضحك! وماتلبث ان تخفت تلك الاصوات لتخلي المشهد لاخرى متناغمة مع ايقاع راقص وكانها مجموعة بشر ترقص احتفالا.
"الموعد".. في فضاء من الليزر والموسيقى
(صانع احتفالات فريدة)، ولانه كذلك فقد دعته مدينة "هيوستن" الاميركية عام 1986 لتنظيم احتفالها بالذكرى الـ150 لتأسيسها وكانت فرصة اخرى لهذا الفنان لاظهار براعته، فوزع حسب ما يريد اعداداً من مكبرات الصوت الهائلة وفي اركان المدينة وحول رابيتها الكبيرة كانت تتوزع شاشات فديو ضخمة لنقل صورة واحداث الاستعراض اثناء عزف "جار" الذي توسط احد الميادين الرئيسية للمدينة، وهذه المرة عزف بطريقة مبتكرة تماماً فربط جهاز مولد لاشعة الليزر بتناسق مع مفاتيح جهازه الموسيقي التوليفي وعزف اعتماداً على حركة اصابعه المتقاطعة مع شعاع الليزر فيصدر حينها الصوت وارتدى قفازات واقية من الاشعة، كي يلعب بحرية على الضوء والصوت لاحقاً.
ووسط هذا المشهد البانورامي الحي، توزع اكثرمن مليون شخص في جوانب المدينة كي يتمتعوا بهذه القصيدة الصوتية -الضوئية الجديدة من فنان ظل يتقن الدهشة دائماً.
لقد كانت موضوعة عمله هذا والذي حمل عنوان موعد Randevouz تقترب من التأمل العميق وتفتقر للحركة المتميزة التي نجدها في اعماله السابقة. وتقف وراءها قصة مؤثرة هالت تفاصيلها اغلب المشاهدين، فالحركة السادسة من العمل نفذت اعتماداً على آلة الساكسفون وفي عزف منفرد تقريباً ماعدا بعض الاصوات المصاحبة لها عن بعد، وصوت الساكسفون هنا، كان بديلاً عن ذلك الصوت الذي كان من المؤمل ان ينبعث عبر عزف رائد الفضاء "رونالد مكيز" على الساكسفون وهو على متن مكوك الفضاء "تشالنجر" الذي تهشم في الفضاء بعيد اطلاقه، وامنية هذا الرائد -المحب للموسيقى بالعزف وهو في عمق الفضاء العالي كي تسمعه الملايين، رد عليها "جان ميشل جار" باعمق ما يكون عليه الرد، وكأنه يقول له: "رسالتك قد وصلت" حين ادخل تلك المقطوعة عبر آلته وبثها هنا من على الارض ووسط تلك الهالات الضوئية، كانت صورة رائد الفضاء التي حملت المقطوعة اسمه "مقطوعة رون"، قد ظهرت على الشاشات الضخمة ومعها تتصاعد الترانيم الشجية لآلة الساكسفون وهي تشدو قصة مؤثرة.
وهكذا عبر عقلية مبدعة وخلاقة وذهن متفتح يعزف من خيالات ومؤثرات عدة نربح اعمالاً جميلة ومبهرة كالتي يقدمها هذا الفنان الذي يمضي الى المستقبل بسرعة خارقة وهو ثابت في ميدان رئيسي لاحدى مدن عالمنا المعاصرة.
ومثل هذا الانطباع لم يكن غريباً عما كان فعله جان ميشيل جار في استعراضه المدهش عدا الاشارات الودية التي تدل على نباهته كفنان منفتح انسانياً لا على الموقع الذي عزف عنده حسب، بل لعموم التأثير الطيب عنده لحضارات العرب القديمة والمسلمين بشكل عام، فكان اشار الى انه سيضع مقطوعة خاصة لتحية العرب والمسلمين مثلما فعل عام 1995 عند برج ايفل حين قدم استعراضاً موسيقياً ارتفعت في خلفيته الضوئية راية المسلمين الخضراء فيما كانت ترانيم وانشاد الجماعات الصوفية تصاحب انغام موسيقاه المستقبلية، وهو ما فعله في الموقع القريب من الاهرامات فأضافة الى صوت ام كلثوم الذي راح يتلألأ في "الاطلال" وجار منصتاً اليه بصحبة مليارات البشر الذين كانوا يتابعون العرض من خلال شاشات التلفزة، واتاح فقرات لعازفين وموسقيين مصريين وعرب لتقديم مقطوعات شرقية وعربية، فيما ارتفع صوت الاذان مع الفجر ليعقب صوت تسابيح وتواشيح بصوت السيد النقشبندي وتلاه محمد منبير مغنياً اغنية صوفية ليقدم جار والفجر اضاء المكان مقطوعته "هذه هي الحياة".