اذا كانت الكارثة العراقية بحروبها وهجراتها وحصارها كشفت عن مشهد رعب عدة ، فان من بين تلك المشاهد ، كان مشهد اللاجئين العراقيين الباحثين عن " ملاذ آمن " في غير بقعة من بلدان الغرب . وكانت هذه من المعالم التي لم يتوقف عندها الأدب العراقي الا لماما . ويبدو ان نصا للمؤلف والمخرج المسرحي جواد الأسدي " نساء في الحرب " ، حاول ان يرصد مشهد "اللجوء " العراقي وعبر واحدة من مفاصله الحرجة ، لجوء النساء بوصفهن ابرز ضحايا الحرب ، وان كان صاحب مسرحية " المجنزرة ماكبث" قد انفتح في كتابه على اكثر من نموذج نسوي من مناطق عربية شهدت كوارث حروب معاصرة . في كتابه الصادر حديثا عن "داركنعان" في دمشق وضم نصا كان عرضه في ايطاليا قبل فترة ، يشير الأسدي " تولدت فكرة " نساء في الحرب " هذه ، من تراكم الإحساس بالفظائع والفضائح والجحيم الذي يتعرض الإنسان العراقي عبر بحثه عن مجهول مصيره ، بفقدانه جنة بلاده ، في تنقيب مضن عن المكان الآمن ، خصوصا بعد ما ارتكب بحقهم جريمة التبعيد والتهجير ، منقذفين الى تيه المطارات والبواخر المهربة ، والحدود الملغومة ، وتزوير الجوازات ، والهروب من حدود الموت مع مهربين يتاجرون بالناس ".
ويستدرك صاحب مسرحية " الإغتصاب " الى ان المشهد الذي يتولى النص المكتوب غير مكتمل التفاصيل والحقائق " لن يكتمل الإ بطوفان من الروايات التي تشكلت على مدار حياة اكثر من ثلاثة ملايين مهاجر عراقي يتمزقون بين الأرصفة والشوارع والبيوت والأمكنة الملفقة " . ولأنه في عمله الأخراجي غير مأسور ب " تقديس " النصوص المكتوبة ، فهو لايعتبر نصه المكتوب استثناء ، بل يدعو من قد يتصدى لإخراج النص الى المزيد من القراءات ، فيقترح مثلا ان تكون الشخصيات " ذكورية " على غير ما هي في الأصل : انثوية ، مؤكدا " هذا لن يضر بالنص ، بل بالعكس قد يفيده ويرميه الى لذات اخرى ". وفي نصه ، يكثف الأسدي وبمهارة تحسب له كصاحب لمسات في " الأدب المسرحي " مشهد 3 نساء في " مخيم لاجئين " في المانيا يتقاسمن غرفة واحدة في انتظار الموافقة على منحهن وصف " لاجئة" رسميا بعد تحقيقات مضنية . ويبدأ الأسدي كشفه القاسي والجارح من اكثر مشاهد اللاجئين قلقا واضطرابا ، مشهد التحقيق ، فتقول امينة ، الممثلة المسرحية القادمة من بلاد تدل اوصافها على العراق : " كلما يقترب موعد التحقيق ، يرتج جسدي كله واحس باني معطلة ولا قدرة لي على ترتيب افكاري وفق تسلسل منطقي يجعل المحققين يصدقون كلامي " . الى جانب امينة ، نجد ريحانة الجزائرية المتحررة ولكن المرعوبة من الذبح في بلادها و مريم الفلسطينية المنكفئة على ذاتها والمتقربة بصلاة دائمة الى الله وهي تعاني رعبا بين غدر حبيبها اللاجىء البوسني وبين وروم في ثديها بسبب ضربة عقب بندقية لأحد جنود الإحتلال . النساء الثلاثة المنقذفات من بلدان الحروب والألم ، يرسمن في احاديث تكثف المصير القلق المتعلق برسالة قد توصي بالترحيل من المانيا الى اللامكان ، في حال عدم اقتناع المحقق باسباب توردها اللاجئة . وفي حين يكشف المؤلف عن اجواء القلق والإنتظار والتوجس بلمسات فيها براعة المخرج ايضا ، وذلك حين يرسم مع النص المكتوب اشارات السينوغرافيا : الإضاءة ، المؤثرات والموسيقى ، فان الأسدي يمنح للنساء الثلاث ، حرية في الكشف عن " عالم انثوي مغلق " ، فالممثلة امينة تكشف عن علاقة بالرجل ارضها المسرح وفراشها العرض الذي يكتمل في " روميو وجولييت " ، وريحانة المتحررة حد التهتك احيانا ، تشاكس بقسوة ، مريم بل وتصر على انتزاع حبيبها البوسني منها . وبدا المولّد الدرامي في النص منسحبا لصالح اللغة في حوار يتشظى ويكشف الفعل الإنساني ، كون اللاجئات مازلن اسيرات ذكرى البلاد ووقائع رعبها . تقول امينة وهي ترثي المكان الأول لصالح المكان – الوهم : " تتحول الأرصفة الى امكنة مرفوعة على تواريخ ويوميات ومسرات / الأرصفة اوطان متباعدة / مدن محتشدة / بيوت ملتوية / بشر ضالون يحملون / اوجاعهم واناشيدهم / الأرصفو بيوت بلا جدران / غرف بلا سقوف ". اما صورة المكان – الملجأ فتتولى ريحانة في احد حواراتها رسمها " نحن هنا في هذا المخفر المروع اصبحنا ارقاما ورفوفا وسريرا وممسحة / وبقايا سجائر مطفأة ، وبالوعة مغلقة ، وسقفا مثقوبا ومحققين حديديين ". والنساء الثلاث اسيرات التناقض والتردد ، حالهن في ذلك حال اللاجىء بشكل عام ، فثمة لحظة الضعف امام اختبارات الغربة ، وحينها تبدو البلاد برغم جلاديها ، رحيمة وآمنة : " ومع ان الجلادين في بلداننا في حال تدريب دائمة على سلخ لحمنا عن عظامنا ، لكن هنا سيكون البعد عن البلاد مؤلما ، مضنيا ، مميتا "! مآل الثلاث البائسات : تموت مريم بعد اجراء عملية استئصال ثديها المصاب بورم ، ويرفض طلب امينة وريحانة في اللجوء ، ليس بعيدا عن اشارة يبثها الأسدي في مقدمة نصه : " الإنسان الذي يغادر بيته الى بيت آخر ، يظل في حالة من الإرتباك والظلم ، لأنه تواق ابدا الى مكانه الأول ، الى رائحة اشيائه المؤنسنة ".
* نشرت في صحيفة "الحياة" العام 2002. |