نقد أدبي  



ادباء عراقيون بعد صدام: الخروج على قطيع من هامات ذليلة

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       31/05/2010 06:00 AM


بغداد – علي عبد الأمير
وفرت رياح التغيير التي عصفت بالبناء الكونكريتي لنظام كان يصف نفسه " تتهدم الدنيا ولايتهدم " الفرصة لكثير من الأدباء العراقيين في مراجعة فصول حياة ثقيلة عاشوها، ففتحوا ماكانوا وصفوها " نصوصا سرية " كتبوها بعيدا عن سلطة الرقيب الذي كان يخضع الكتابة الى شروط " السلامة الفكرية " او انهم بدأوا نشر " شهادات " يختلط فيها الإنساني بالثقافي ، هي تسجل وقائع من محطات العيش تحت ظل نظام لا تكاد منطقة في العراق تخلو من " مقابره السرية" كما بات اهل الضحايا يكشفون عنها في كل اسبوع بعد السقوط المدوي لمن كانت " الشمس تشرق له" كما يصف الشاعر رعد بندر ، سيده صدام .
وفي شهادات الأدباء العراقيين الذين صارعوا على جبهتين : ارهاب السلطة في بغداد ، واحساس العزلة وتأثير العقوبات الدولية ، صوغ  بدا جديدا على كتابة لطالما وقعت اسيرة الطلاسم والرموز ان حاولت الخروج على النص " الأوحد " الذي ما كان له ان يجد طريقه الى القاريء الا بعد اجتيازه اختبارات التطابق مع فكر " الحزب القائد ".
هنا سنقرأ مقاطع من شهادات بدت منسجمة مع ذاتها دون الحاجة الى مبالغة في استخدام الرمز ، وتتقدم فيها حرارة اللحظة وتوهجها دون الإفراط في انشائية باتت ميزة في الكتابة العراقية حتى عاف القراء نصوصا انتقلت خلال عشرين عاما من خيمة " ادب قادسية صدام " الى " الشروط الفنية لشعر ام المعارك ورواياتها " ، ومن حاول الخروج على هذا الإنتظام في " السلامة الفكرية " كان يلوذ باسلوب " اسطرة الواقع " اي انه كان يجعل من الوقائع العراقية المرعبة " بناء اسطوريا " يحيل الى امتداد زمني غير محدد .
                        سهيل نجم : حريتي .. خبزي 
الشاعر والمترجم سهيل نجم الذي عاد قبل سنوات من اليمن بعد تجربة مرة في التعليم باقليم معزول في بلاد بلقيس ، يكتب نصا بعنوان " حريتي .. خبزي"  وفيه نقرأ انعكاسا لفكرة الحرية كما تمثلها صاحب ديوان " نجّارك ايها الضوء " :
 اليوم وقد أمسكنا بزمام حريتنا علينا أن لا نفرط به لأحد. هذه الحرية التي فقدناها لسنين طويلة خلت بعد أن سلبت منا عنوة يوم كنا لا نزال عيداناً خضراً، أجد من حقي اليوم أن أنعي باللائمة لفقدانها على عتاة السياسة يوم بدأت عاصفة القمع تلم أذيالها بهدوء وروية على مرأى منهم وهم يغضون الطرف عنها، غير منتبهين، متعللين أنها "ريح عجوز"، فتجملوا بالصبر وانحنوا قليلاً لتتفادوا شرها، بينما هي راحت تستأصل جذور حرية الجميع جذراً فجذراً.
إذ أتنفس هواء الحرية اليوم يقرصني جوعي إليها ولهفي يوم اقتادوني قسراً للتحقيق والتأكد من درجة وطنيتي التي كان معيارها الانتماء لحزبهم الواحد والوحيد وإلا فأنت "لست عراقياً" كما قالها لي ضابط "الأمن"بالحرف الواحد وعلي بناء على ذلك أن أدفع مع أهلي ثمن غلطتي في الاصطفاف مع الذين يتبنون الأفكار المستوردة(!) فأكون جندياً في خطوط الحرب الأمامية عقوبة لممارستي لحريتي في اختيار اتجاه سياسي وضعوه في خانة العمالة للأجنبي وأي اتجاه سياسي لم يصموه بهذا (العار)؟ لكنني وأنا أعاني من اقترابي من براثن الموت وويلات الحرب واستعلاء الضباط وبالأخص ضباط الأمن والحزبيين واستدعاءاتهم وممساوماتهم الحقيرة وحروبهم النفسية ورغم اختلافي في وجهات النظر مما كنت أحسبه الموقف السياسي الأصوب إلا أنني بقيت على احترامي لحريتي في توجهي رافضاً الانخراط، كما فعل الكثيرون، في سلوكيات انتهازية يفقد فيها المرء اتزانه.
ويرى مترجم رواية البرتغالي ساراماغو " الإنجيل يرويه المسيح " ان اشتغاله على النص الأدبي جعله محتفظا بحريته :
لقد دفعني إدراكي لضرورة حفاظي على حريتي واحترامي لها أن أمارس تلك الحرية وعلى نحو مطلق في تعاملي مع كتابة النص الشعري بعد أن كنت في محاولاتي الأولى مكبلاً بأيديولوجيا غالباً ما تلتهم أية جمالية للنص لأنها عادة ما تأتي سابقة له فتهيمن على وجوده. وإذ سحرني التعامل الحر مع الكلمات ودلالاتها كنت أسعى ومازلت على أن تكون للنص رسالة أو مضمون أحاول التعمق في صب دلالاته في بنية شعرية معاصرة تمتاح جمالياتها من تطور وتبلور الأدوات في عموم الفنون الحديثة. وقد دفعني ذلك إلى كتابة بحث تطبيقي عن الإنجاز الشعري لدي جيلي من شعراء الثمانينيات نشرته في مجلة أصوات اليمنية عام 1995 حددت فيه وجود ثلاثة تيارات الأول منها يسيء توظيف الحرية فيميل إلى التهويمات اللغوية والاتكاء على سحر الصور الغرائبية الخالية من البوح الشعري وأوعزت ذلك إلى الفراغ الفكري، بل رأيت أن تلك هي بالتحديد مؤامرة على الشعر تسعى إلى خلق هوة بين الشاعر والمتلقي بحجة واهية هي تفريغ الشعر من الأيديولوجيا، هذه المؤامرة شجعتها السلطة السياسية بهدف قتل روح التمرد في قصيدة النثر تحديداً، لتنهي بذلك، مع محاولاتها في نفخ الروح في جثة قصيدة المدح الرخيصة التي تكتب بالعامية أو الفصحى، أقول لتنهي بذلك على الدور الخلاق للشعر. التيار الثاني هو تيار قصيدة البوح والدلالة الشعرية العميقة، القصيدة التي يعي فيها الشاعر لدوره بوصفه رائياً ومتجاوزاً لهوة الذات المرضية ووهم الشعر المحض الخالي من المعنى أو الدلالة كما جرى ترويج ذلك. أما التيار الثالث فهو التيار التقليدي الذي كان يبني نصه مستنداَ إلى نصوص سابقة فلا يأتي إلا بنص غير مبتكر، ضعيف المبنى والدلالة. وقمت باختيار نصوص محددة وقرأتها وفق ذلك. لكن ذلك لم يعجب البعض من الأصدقاء الشعراء ولم يدركوا أن من حق أي أحد ممارسة حريته في قراءة تلك النصوص.
وحول احد التحولات الخطيرة التي عاشها الأديب العراقي كي يكون بمنآى عن سيطرة السلطة (حين صار شعراء وروائيون وفنانون " عمال مهرة " في سوق تبيع وتشتري كل شيء) يقول مترجم رواية " في بلاد الآله آنكي " :أن المكان الحقيقي لعمل المثقف المبدع هي الأوساط الثقافية لا العمل في (السوق)، كما تحتم ذلك على الكثيرين، وأنا منهم، هرباً من هيمنة السلطة على حريته في التعبير عن أرائه. ولأنك تفكر بحرية من الصعب عليك، إن لم يكن من المستحيل، أن تبقى حراً وتعمل في إطار هذه المؤسسة الثقافية الوحيدة التي في البلد. في خضم ظروف طائشة عشناها هنا في داخل بلدنا صار الخيار الأفضل هو المحافظة على النفس من الانجرار وراء أحابيل السلطة ومغرياتها التي سحبت الكثيرين فجعلتهم من بين قطعانها التي تنود بهاماتها مذلولة بحجة الجري وراء لقمة العيش. وإذ لم أر نفسي من بين المحابين للنظام القمعي الذي قتل وشرد الكثيرين من أصدقائي وأهلي كنت قد نويت العمل في التعليم، رغم عدم قناعتي به، لكنني وجدت المساومة ذاتها وجاءت الملاحظة على إضبارتي "غير صالح للتدريس" وحين سألت المسؤولين عن السبب اشـترطوا للتعيين التحلي ب"تعويذة" الانضمام إلى "حزب البعث"! ومرة أخرى اخترت حريتي.
ويلخص نجم في بضعة سطور ملمحا من ملامح " انفصام المثقف العراقي " لسنوات ناهزت العشرين حين كان يدعي مثقفون " معارضتهم " للنظام بينما هم جزء من الة التضليل التي خدمت فكرته :
لست مع الذين يدعون معارضة النظام وهم يعيشون في كنفه ويكتبون له ما يشتهي سراً وعلانية، أو ربما يكلفون بكتابة الخطابات السياسية (الطنانة) للمسؤولين الأميين، ولا أحترم كتاباتهم المرائية حتى لو كانت "ثورية"!في الشكل، فمن الضروري، في تفكيري، أن لا تكون صورة المثقف المبدع مهزوزة ويحصل التضاد بين فكره وسلوكه. هذه الشيزوفرينيا الثقافية كنت أمقتها. لكنني كنت، من الناحية الأخرى، أشعر بنوع من الفصام بين توجهاتي وطموحاتي وعملي حين اضطرتني الظروف لأعمل في التعليم في مكان قصي من العالم فوق جبال العزلة التامة اليمنية في عالم بالغ البداءة، فطري تراجع ربما عصراً كاملاً عن ركب الحضارة، وأقول لنفسي أي منفى؟ وقلت الشيء ذاته حين عدت لبلادي لأعمل مجبراً في السوق في فوضى عجيبة من السراق والمتحايلين والمرابين والمدمنين والبسطاء الطيبين والساذجين الذين يشكلون قاع المدينة حيث التنافس التجاري الرخيص،  وأقول أية غربة؟ ثم أعود لأوازن ذاتي، فالغربة في الداخل والخارج وحريتي في يدي أفضل لي من أن أسمح للسلطة الدموية أن تدنس قلمي، وعلي أن أحترم العمل الذي يمكنني من أن أعيل نفسي وعائلتي بنزاهة مهما كان شاقا، ولا حاجة بي للاتكاء على جدران واهية مهما بدت خرسانية فهي في الأخير مشبوهة.

       مقداد عبد الرضا : إنقاذ ارواح محفوظة في ارشيف السينما
 الممثل في اكثر من دور مهم في السينما والتلفزيون والمسرح في العراق ، مقداد عبد الرضا اختار ان تكون " شهادته " عن قصة غنية الدلالات ، وذلك حين " تطوع " لعمل  لايخلو من المخاطر ، حين انقذ " ارشيف السينما العراقية " من مبنى " مؤسسة السينما والمسرح " الذي تعرض للسلب والنهب ومن ثم الحرق على مدى اربعة ايام متواصلة . عن هذه التجربة يكتب صاحب الدور المهم في فيلم " اللعبة " المأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته للشاعر والروائي يوسف الصائغ :
احمرت عين الدنيا حزنا على قلب بغداد المرتجف هلعا . ياالهي كم هي عدد المرات التي يرتجف فيها هذا القلب المفعم بالمحبة جراء الخبل الذي يجتاح عقل الغول ؟
احفظ في ذاكرتي وعلى دفاتر ايامي مشاهد لايمكن لدموع العالم فيها ان تجف . وحشة في بغداد اذ تخلو من المارة ، وعدستي تسجل كل لحظة , والغول لايزال يرفع يده تحية لأناس اداروا له  ظهورهم من كثرة الأوجاع التي سببها لهم.
احمرت عين الدنيا وكاد ينفجر الدمع مختلطا بالدم . الغول يأكل قلب العراق وقلبه قدّ من حجر ، الرب يرسل ماءه ليغسل عيون بغداد .
هاانا في ختام جولتي اليومية التي اعتدتها منذ اول ايام الحرب ، اتجول وعدستي ترافقني لأوثق ماالذي اكلته القنابل ومالذي ستفعله بارواحنا ( امكنتنا الحميمة او بقاياها) . اخرج لأرى ماذا اكلت القنابل من جسد بغداد ؟ تمزقت خاصرة بناية الإتصالات في شارع الرشيد ، اصورها ، وفي ذهني المعماري رفعت الجادرجي الذي سيحزن لتمزق خاصرة انجازه. تقطعت ارجل السوق المركزي في الحي الذي اسكنه ، واصيبت هامة وزارة الإعلام ، ترى اين يمكن ان يكون الصحاف في هذه اللحظة ؟ اين يختبىء ، وهل سيظهر مرة اخرى ليلقي علينا من نكاته السمجة ما جعله اضحوكة العالم ؟
كل صباح اجلس فيه امام مبنى السينما والمسرح ، اتطلع اليه واستكين بعض الشيء . ثلاثة ايام مضت والرابع جاء بدخان يحز القلب ، وشممته وانا في بيتي . هرعت الى المبنى كان كل ما فيه يصرخ . وقفت امامه ، وكنت اسمع صراخي يخرج منها يصمّ الآذان . المخرج محمد شكري جميل يصرخ : كيف الطريق الى اطفاء قلب " الظامئون" ؟ اتطلع ودموعي تجري مدرارا على اختناق روح " دائرة السينما والمسرح " . يد بعض خونتها ،احرقتها حتى تضيع معالم جريمتهم لما اقترفوه من سرقات ، واعود مبللا بدموعي . كان صوت المنجزين يتناهى من بعيد ، وهم داخل العلب ، وارواحهم تزهق ، اي وحشة اجتاحتني ؟
فكرت ان اكمل لعبة الحلم وآتي بشريط والفّه حول عنقي وانهي حياة دامية دامت اكثر من اربعين عاما . روحي توجعني غير ان الأرض تنشق فجأة ويخرج منها ماردان حميمان كانا قد غادراني منذ سنوات : هاهو علي عبد الأمير الصديق الحميم ، وصاحب اسناد لايضاهيه احد ، وهاهو حسن ناصر يقطع كل تلك المسافة من استراليا ليقفا امامي بهدوء يحمل في داخله موج عارم ، وافزع وارتبك وابكي ، واضحك واصرخ . اي رب كريم هذا الذي منحني كل هذا اللطف في هذه اللحظة . ليس بوسع اي مجنون في هذا العالم ان يمحو الإنسان  من على سطح الأرض . بدأ الموج المتلاطم في داخلي ، يخف بعد ان وضع الإثنان راحتيهما عليه . تحدثنا في دقائق عن سنوات عشر ، فلما انتصف الليل ، انتصفنا المحبة بهدوء.
اخبرت علي بقصة اشرطة السينما العراقية متمنيا ان لا يكون الحريق طالها ، والا كيف يمكن اعادة اولئك الأفذاذ الذين منحوا كل ما يملكون من جهد ليسجلوا بعدساتهم تاريخ البلد ؟كيفيمكن ان نعيد ارواح اولئك الذين ماتوا كمدا من الجور ،الجوع والألم ؟
قلت لصاحبي علي : اريد الإسراع بنقل اشرطة ارشيف السينما العراقية او ما تبقى منها  من المبنى المحترق . وكمن يصب ماء رقراقا باردا على قلبي المحترق ، نظر اليّ، رأيت الحزن مطبوعا في عينيه هو الآخر ثم قال : غدا نأتي بمركبة وعمال وحاول ان تنقل الأشرطة . نمت كالمتقلب على الجمر ، كالمحب ( ويامن يجيب الصبح ) .
طلع الصباح وجاءت المركبة زمعها عمال مفعمة قلوبهم بالإنسانية ، فلولاهم لما انجزنا المهمة ، الجو خانق في المبنى المحترق وهناك تحول كل عامل الى قطعة من فحم ، اسودّت ملابسهم ، تعرقت اجساهم وخارت قواهم لكنهم اصروا على انجاز المهمة . تحمل صاحبي تكاليف اجور النقل والعمال في اليوم الأول ، وخارت قوى ميزانية بيتي تحت ثقل اعباء الأيام الثلاثة الباقية ، فدفعت كل ما املك في هذا الظرف العصيب .
اهل " دائرة السينما والمسرح " جاءوا " بعد خراب البصرة " يحيون جهدي ويباركون جهدي ، لكنهم ابدا لم يمدوا يدا كي تنقل ولو شريطا واحدا ، الجميع يتفرج ، بل هناك بينهم من اتهمني بالسرقة . تشاجروا وكشف احدهم الآخر فيما انا اسجل بكاميرتي الصغيرة كل ما يدور ، واحتفظ به الى يوم ان نقول : عليكم ان تضعوا كل ما سرقتوه هنا وغادروا ، فنحن نشكك بمحبتكم للعراق .
الآن يهدأ صراخ اولئك الأفذاذ الذين يقبعون داخل العلب ، انهم في مكان امين . لكن ثمة حسرة لأن البقية الباقية من تاريخ ستديوهات الأحلام ، ماتزال هناك تتنفس هواء فاسدا ملؤه الدخان تنتظر من يمد يد العون ويخلصها .  
 
*تقرير صحافي نشر في صحيفة "الحياة" صيف العام 2003 .


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM