مقالات  



الثقافة العراقية: فلاسفة الطغيان وكتًابه

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       31/05/2010 06:00 AM


انهمك الفكر الانساني على فترات التاريخ الوسيط والمعاصر في فك معضلات الانسان وايجاد الاجوبة لمختلف الاسئلة الحرجة التي تواجه مسيرته لا سيما بعد التعقيدات التي طرحتها الانجازات العلمية المذهلة والمسافات التي طوتها وسائل الاتصال المعاصرة, وباتت فلسفة الفكر المعاصر منشغلة في تأكيد قضايا مهمة تعين الانسان على تثبيت وجوده الحي امام طغيان السلطة بكل انواعها وضرورة ان يلعب دوره الكامل في ظل انظمة ديمقراطية تتيح له فاعليته العقلية والروحية والجسدية.                                
واذا كانت فلسفة الفكر الانساني المعاصر انجزت في هذا الشأن خطوات لا رجعة عنها, فان من يحلو لهم تسمية انفسهم بالمفكرين والفلاسفة في بيت حكمة صدام, غير معنيين بهذا المعنى, وهو ما اتضح في تنظيمهم ما اطلقوا عليه المؤتمر الفلسفي العربي الثاني في بغداد الاسبوع الماضي.                                                                         
وعوضا عن طرح قضايا تشكل مفترقات طرق امام الانسان العراقي والعربي انشغل مفكروا صدام ونظرائهم ممن يرون في طغيان صدام ودمويته تعويضا عن اختلالهم العقلي واستخدامهم الفكر وسيلة للارتزاق الرخيص, انشغل هؤلاء في الترويج لسياسة النظام العدواني والتوسعي وبدوا وكأنهم ممن يجمٍل مستنقعا آسنا بحفنة من الزهور الاصطناعية. 

عمال ينظفون تمثال صدام وكتاب عراقيون يصنعون اسطورته
 
ان انحدارا عقليا وتدهورا فكريا تراكم في المؤسسات الثقافية والفكرية العراقية منذ ان حوًلها مثقفوا صدام وكتبته الى مؤسسات التسبيح بحمد الطغيان وتجميل صور الموت والدمار في بلادنا, جعل الفكر وطروحاته اشبه بالميٍت, فهو من جهة لا يستطيع قول شيء يخالف ما يريده النظام إن توفر هناك من يجرؤ على القول, ومن جهة اخرى تحول الى عملية خداع للعقول والنفوس حين اصبحت سياسة تدمير البلاد ودفع سكانها الى هاوية الحروب والحصارات تمثل بواعث لعمل ذلك الفكر الذي لا يمكن وصفه إلا بفكر همجي يسوغ الموت فيما عليه ان يفتح السبل الفسيحة لمعرفة الحياة وتقدمها.       

الكاتب المصري خيري رمضان : اصبح السفر الى بغداد جزءأ من الصفقة

من بين الاقلام العربية التي يذهب اصحابها الى العراق تحت تسميات واسباب شتى إخترنا ان نعرض لك ما كتبه قلم الصحافي والكاتب المصري خيري رمضان في مجلة ( الاهرام العربي ) المصرية من انطباعاته عن الرحلة التي قام بها مؤخرا الى بغداد والتي كانت واحدة من سلسلة رحلات دعائية نظمها رجل الاعمال المصري عماد السعيد صاحب الاتفاقيات والعقود والصفقات الضخمة مع النظام في بغداد والتي يحاول من خلالها هذا التاجر الادعاء في ان ما يقوم به هو من اجل رفع المعاناة عن الشعب العراقي وتلك اصبحت جملة جاهزة يتم من خلالها ارتكاب جرائم كثيرة بحق العراقيين. وعن هذا الامر يقول الكاتب خيري رمضان : احسست بمهانة شديدة وانا استمع الى كلمات رجل الاعمال الذي جئنا على طائرته – وهو يتحدث امام الآلاف في استاد بغداد وبعدها في مسرح الرشيد, منددا بالحصار الغاشم – وهذا لا يغضب احدا, مشيدا بالقائد الفذ صدام حسين, كان يتحدث عن التأييد والمؤازرة باسمنا جميعا, باسم الشعب المصري, نعم نحن نؤيد ونؤازر الشعب العراقي, ولم نأت لتأييد صدام حسين, هل جئنا لدعم وتأييد الشعب العراقي, ام لدعم رجل الاعمال ؟ وهل نحن كإعلاميين وفنانين جزء من صفقة يتقاضى رجل اعمال ثمنها ؟ كان علي ان ابحث عن اجابة واضحة ومحددة حول لعبة البيزنس في اراضي بغداد ؟ الاجابة سهلة : بعض رجال الاعمال رأوا أن العراق الآن سوقا خصبة لتجارتهم, وهذا حقهم, فقرروا اقتحام هذا السوق بأية طريقة, فاتفقوا مع فرق فنية على تقديم عروضها المسرحية في بغداد مقابل مبالغ مالية محددة, بدءا من محمد صبحي, ومرورا بعادل امام, وانتهاءا بسمير غانم, وهذا لا يعيب الفنانين في شيء, وعندما سئل عادل امام عن سبب زيارته الى بغداد ؟ اجاب بكل صراحة : انه جاء لاضحاك الشعب العراقي يعني انه جاء في عمل ولا داعي لاطلاق شعارات وخطب سياسية, والشعب العراقي يفهم هذا جيدا, فالجمهور العراقي يدفع ثمن التذاكر التي تذهب الى المستشفيات والاطفال في بلادهم, والوسيط هنا هم رجال الاعمال الذين اختار بعضهم لعب ادوار سياسية لصالح الحكم العراقي, لكن ما الثمن ؟ ما ثمن ان يدفع رجل اعمال لفرق فنية ويتحمل ايجار طائرة خاصة ؟                                         
الثمن باختصار هوعقد الصفقات, العراق يطلب بعض السلع بعينها, لترسو على رجل الاعمال الذي يهتف للقيادة السياسية, ويقبض ثمن ما دفعه اضعافا مضاعفة من الامم المتحدة. 
الشعب العراقي يفهم ما يحدث جيدا, سمعته كثيرا من العراقيين الذين التقيت بهم, فقالوا لي : لولا النفط مقابل الغذاء, ما رأينا رجال الاعمال ولا رأيناكم, قالوا لي : النفط يشتري كل شيء.   
يضيف الكاتب المصري خيري رمضان في مقالته التي نشرتها مجلة (الاهرام العربي) في عددها الصادر في الرابع والعشرين من شهر آذار قائلا : ( شعرت بانني لا استطيع التنفس في بغداد, شيء ما لم افهمه في البداية, وعندما زادت الاعراض فهمت انني محاصر, لا استطيع ان اتحدث بالحرية, الحرية تلك الكلمة التي نستخدمها كثيرا, يمكنك ان تفهم معناها جيدا في بغداد, لأنك ستشعر بفقدها, لا احد يتحدث في اي شيء, لا بد ان يطل عليك القائد صدام حسين في كل شيء, في التلفزيون والاذاعة, وتنظيم المرور الذي تحكمه تعليمات القائد المعلقة في الشوارع, وعندما تزداد الاسئلة يرتفع ضجيج الصمت.
النكتة العراقية الوحيدة التي سمعتها تقول : ذهب رجل لاصلاح تلفزيونه المعطل, وعندما ذهب لاستلامه فوجيء بالرجل يلصق عليه صورة صدام حسين, فسأله لماذا لم يصلحه ؟ فأجابه : وهل ستشاهد فيه غير القائد ؟ النكتة تختصر الوضع في العراق وتفسر سر غياب الابداع هناك, فاللوحات التشكيلية كلها استنساخ للوحات عالمية, حتى الكتابة وما يجب ان يتناوله المبدعون حدده القائد صدام حسين ووجدته مخطوطا في كتاب "زبيبة والملك".
وينهي الكاتب خيري رمضان مقالته في هذه السطور : قطعت رحلتي وقررت العودة عن طريق الاردن بحثا عن نسمة هواء, نسمة حرية بعد ان طاردني الاحساس بانني سجين, لكن كان لي حرية الهرب على عكس الشعب العراقي المسجون داخل اسوار البلاد, وعندما خرجت من الحدود العراقية رددت مع عبد الوهاب البياتي :               

انني احمل بغداد معي في القلب
من دار لدار
ابدا لن يستر الثوب المعار
 عري اهلي
آه من عري القفار
آه لو عدت الى بيتي
 لمزقت مكاتيبي واوراق الغبار
ولعلًمت الصغار
كيف ابحرنا على مركب نار


مؤتمر الالفية الخامسة لاختراع الكتابة والحقائق الضائعة

انتهت قبل ايام في بغداد اعمال مؤتمر الالفية الخامسة لاختراع الكتابة, وبقدر ما هو مهم ان يطلع البشر على جزء من انجازات بلد عريق في تراثه ولشعبه دور الريادة في خلق الحروف الاولى, بقدر ما حاولت وزارة ثقافة صدام على جاري عادتها, تحويل الامر وكأنه مؤشرا على عبقرية النظام وتوجهاته, فطارق عزيز وبكل ما في لغة التبجح والادعاء من تعابير قال في افتتاح المؤتمر ان ( العمل على احياء حضارة العراق وتجديدها ومواصلتها يشكل الهاجس الاول لقيادة العراق ), ومثل هذا الكلام ينطوي على خلط للاوراق وعلى اكاذيب وخدع متصلة, فالنظام وعبر عزيز الذي يأتي بوقا من الابواق التي شوهت العراق ومعانيه الجميلة, يحاول ان يربط كل ما في العراق من تاريخ وحضارة ليسنده اليه لا بل انه يذهب الى ابعد من ذلك فيعتبر ان سياساته التي جاءت بالويل والثبور على العباد في العراق وخارجه هي في الحقيقة استمرار مع نهج قادة العراق التاريخيين امثال نبوخذ نصر, حمورابي وآشور بانيبال.                       
وإذا كان طارق عزيز يسوٍق مثل هذا الكلام عن رعاية نظامه لحضارة العراق وسط اكاديميين وعلماء آثار اجانب, فانه لم يستطع تسويقه بين العراقيين الذين يعرفون جيدا شبكات تهريب آثار العراق ومن اين جاءت ومن ظل يوفر لها الظهر القوي ولماذا ظل المتحف العراقي مغلقا عشر سنوات ؟                                                             
وحين نعرف ان من يعمل على تهديم حاضر العراق ومستقبل انسانه لن يبدو مكترثا بماضيه وحضارته القديمة, فاننا سنتعرف على مشهد آخر من مشاهد تزوير التاريخ في بلادنا, بطله هذه المرة طارق عزيز.                                                              

( علي كيمياوي ) يوثق تاريخ البصرة !

قبل مشهد تزوير طارق عزيز لتاريخ العراق بايام كان الجلاد علي كيمياوي ينفذ مشهد تزوير لجانب آخر من تاريخ بلادنا, حين اصبح رئيسا للجنة كتابة تاريخ البصرة, ثغر العراق الذي كان باسما واصبح اليوم ثغرا مجروحا وحزينا.                                 
وحين يكون قاتل مثل علي حسن المجيد من يحدد الاسس التي يكتب وفقها تاريخ البصرة فذلك يشكل اهانة للتاريخ وللبصرة وللانسان ولقيم الخير والعدالة والحق, ولتراث زاخر بالفكر والمعرفة احتضنته البصرة منذ تأسيسها حتى اللحظة الدموية التي غرقت فيها حين صارت المدينة وانسانها نهبا لانتقام دموي اشرف عليه هذا المجرم الخارج من فصول الشر والقتل والموت الاسود التي عرفتها مراحل الانحطاط في التاريخ الانساني.
نعم يتذكر اهل البصرة ذلك جيدا وقبل غيرهم, يتذكر كيف حوًل القاتل علي كيمياوي حياتهم جحيما في اواخر آذار عام 1991 وعقابا جهنميا لمسؤولية المدينة عن انطلاق الشرارة الاولى لانتفاضة الشعب العراقي.                                                       
انها لحظة انحطاط التاريخ ولحظة موت المعرفة وزمن اندحار الخير والحق حين يكون القاتل الذي لم يسلم حتى اولاد اخيه من دمويته, مشرفا على كتابة تاريخ البصرة.        

الشعر العراقي ما زال يجد منافذه للخروج حرا....

بالرغم من حفلات التكريم الخادعة التي تقيمها سلطات نظام صدام في الحقل الاعلامي والثقافي لشعراء المديح الذين اهانوا اللغة وذبحوا شرف الكلمة على بلاط صدام, وبالرغم من رنين الالقاب الكبيرة التي يمنحها الطاغية لمن حولوا الكلمات الى راقصات رخيصات يتمسحن به, وبالرغم من جعل منابر النشر حكرا على تلك القصائد الممتزج مديحها بعذابات العراقيين وجراحهم, إلا ان الشعر العراقي ما زال يجد منافذه للخروج حرا وإن كان بثمن من التعب والفقد والالم والانتظار.                                         
ومن تلك النماذج الرفيعة للشعر العراقي التي ما اهتزت امام رنين دنانير مؤسسات النظام وما انحنت رياءا وتملقا, نموذج شعري عراقي رفيع المستوى للشاعر ابراهيم البهرزي, فقد نشرت الصفحة الثقافية لصحيفة ( القدس العربي ) اللندنية بعددها الصادر في الاول من الشهر الجاري قصيدة للبهرزي بعنوان ( لشموع وحيدة في المنافي ) تضمنت استذكارا غاية في العذوبة والرقة لرمزين عراقيين كبيرين في الادب والعلوم هما الراحلان : عبد الملك نوري, الاديب الرائد ونوري جعفر, المفكر والباحث واستاذ علم النفس. 
وتمكن الشاعر ابراهيم البهرزي ان يرسم عبر لغة شفيفة وبصيرة عميقة, صورتين اظهرتا ما كانا عليه الراحلين عبد الملك نوري ونوري جعفر, محققا بذلك اعادة اعتبار لاثر هذين العلمين البارزين في تاريخ العراق المعاصر, الاثر الذي عملت اجهزة النظام على طمسه, فالراحلان ليسا على هوى النظام وافكار طاغيته وليسا على توافق مع نهج الحاكمين من اصحاب الاصول الوضيعة.                                                        
ومن قصيدة ابراهيم البهرزي اخترنا هذا المقطع الذي يرسم فيه صورة تذكٍر بالاصول الرفيعة للاديب الراحل الكبير عبد الملك نوري, جاء فيه :                                    
عبد الملك نوري
في العهد الملكي
في ايام الاستعمار
والاحلاف
وو ... و ... وكل تواصيف العهد البائد
كان ابوه وزير دفاع
وقائد حرب ضد المملكة المتحدة
وكان لمنزله بوزيرية بغداد
بستاني وخدم
وكان انيقا, وشيوعيا مفترضا
ارستقراطيا ووديعا
في العهد الجمهوري الممتد خلال قرون خمسة
رغم التأميمات
وقوانين العدل
وإصلاحات الريف
وبرغم الاشتراكية تتكرر في نشرات الانباء
والمجد وكل كرامات الزعماء
وبرغم نمو الثروات
ونشوب ملايين المليونيرات
مات من الجوع
وحيدا
في منزله الخاوي
بوزيرية بغداد ..
 
*فقرات مختارة من برنامج "محطات ثقافية" الذي كنت اكتبه لاذاعة "المستقبل" المعارضة لنظام صدام حسين خلال الفترة 1996-2003.

 


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM