ايها الوحيد رغم كوكب باكمله مشغول بك حد الجنون، دعني اعود بك الى البدايات. انا في غرفة خانقة لكنها رحيمة بوحشتي ضمن حامية معسكر راوندوز، ونافذتي الى العالم راديو ترانسزتور وصوت دافىء حميم عبر إذاعة "مونت كارلو" ، هو صوت المذيعة هيام تقدم بكلمات بسيطة اغنيتك " اوف ذي وول"، فكم ابهجني ان تغني لوحدك بثقة وصفاء ونضج صوت ومشاعر. كم حملت لي الاغينة التي منحت اسطوانتك الاولى عنوانها من دفء عاطفة وبهجة ايقاع ونحن نقترب من شتاء العام 1980، فيما كانت الحرب قد بدأت تتواجد بيننا وان كانت ضيفا ثقيلا، وكان علينا ان نعتاد ضرباتها القاسية، حتى جاءت اغنيتك التالية من الاسطوانة ذاتها " لا تتوقف حتى تأخذ كفايتك" لتكتسح بحيويتها الايقاعية كل لوائح الاغنيات الشهيرة في العالم. ان تغني منفردا كان يعني ان ادخل في مقارنة مع تلك الالحان والرقصات التي كنت تؤديها رفقة اخوتك "جاكسون فايف"، وكنا نشاهد بعضا منها ضمن فقرة "منوعات اجنبية" التي كانت تعرضها القناة الثانية بالتلفزيون العراقي في سبعينيات القرن الماضي قبل ان يحل بيننا ضيف اليكتروني جديد اسمه "الفيديو كاسيت"، فابتهج انك نضجت واخترت ان تكون صوتك وتكون ذاتك، لاسيما ان ذلك يقع عندي بتاثير حسن فانا المأسور بان اكون نفسي ومنسجما مع روحي وليس بالضرورة ان اتوافق مع عقلي. لمستان منك ابتهجت معهما روحي وكان علي ان انتظر لنحو ثلاثة اعوام قبل ان تصدر اسطوانتك التي ستطبع تاريخ الموسيقى الاميركية المعاصرة بقوة، بل ستغير اللحن الغربي المعاصر والى الابد، وستدخل الصوت الموسيقي في اطار تلق جديد اسمه "الفيديو كليب" ومعه جاءت العبارة المدوية" الصوت يجب ان يكون مرئيا". انها اسطوانة "ثريللر"، ولحسن الحظ أنني كنت قد بدأت قبيل صدروها كتابة سلسلة من المقالات في نقد اسطوانات الاغنية الغربية الجديدة في مجلة "فنون" البغدادية بتشجيع من اصدقاء، كنا معا نجد في تلك الاغنيات اشارة امل وتوق للخروج من افق كان يضيق بالحرب والموت. كتبت عنها مبتهجا، وانا اسمع الحانها تباعا، متطلعا الى صورتك على غلافها وانت تشع املا بملامح ستتغير بعمليات تجميل لم تكن مضطرا الى اجراء المزيد منها، علي اي حال ذلك قرار يخصك، رغم انه وضعك في محل نقد لم تكن بحاجة اليه، لاسيما ان تغيير الملامح ولون البشرة، كان يعني محاولتك الهرب من اصولك البشرية والثقافية كأميركي من اصل افريقي. وعلى الرغم من براعتك في اداء لحن اغنيتي" بيلي جين" و" بيت إت" الا انني توقفت مندهشا عند لحن الاغنية التي منحت الاسطوانة عنوانها " ثريللر" وكلماتها التي ستدفعني الى ترجمتها لما فيها من غرابة تصويرية، ما لبثت ان جسدتها في " فيديو" سيغير تصوير الاغنية والى الابد، بحسب معالجة اخراجية من جون لاندس الذي وجد في اجواء الموتى ورعب عودتهم الى الحياة مادة مثيرة لاغنية مثيرة في اللحن وباداء اكثر اثارة. غير ان الاغنية التي اسرتني حقا في تلك الاسطوانة هي في اغنية اللحن الصافي والعذب الذي ابدعه كما في جل الحان الاسطوانة كلها كوينسي جونز، والحديث عن رقتك التي لا تضاهى في " هيومان نيتشر"، وكنت فيها تتجلى فيضا من الاشواق والرؤى عن التوق والحلم والرحيل في علاقة بين انسان ومدينته التي يتمنى ان يربت على كتفيها كونه كما تعني الاغنية ابن "طبيعة بشرية". الان اعود الى الاغنية بنقرة على الكومبيوتر، وتأتي الانغام موجة هائلة من الحنين وتقذفني الى ايامي في بغداد، تلك التي صورتها في احد نصوصي الشعرية: كانت هناك حياة وان كانت في رواسب الحروب كانت هناك يده وهو سعيد بالعشب على قميصه كانت هناك لذة وان كانت القفز بين الفخاخ كانت هناك مدينة كان هناك ورد يزهر على ايدينا الآن لا ورد في الجوار لا يد امراة ترّق ولا غد يبتسم...
"نحن العالم".. لمسة التضامن الانسانية لم تهدأ حماستي لانجازك، بل تضاعفت حين ظفرت بثمان جوائز من جوائز "غرامي" الشهيرة للعام 1984 والتي لطالما كنت أصفها بـ"أوسكارات" الموسيقى، ولم اكد التقط انفاسي حتى فاجأت النقاد في العالم بواحدة من الاغنيات المختلفة، التي ستتحول الى رمز آخر من رموز التضامن الانساني، انها أغنية " نحن العالم" التي جمعت فيها ابرز نجوم الغناء في اميركا ضمن فكرة للتضامن مع جياع افريقيا ومشرديها من الاطفال والنساء، وهي ستكون محورا لابرز حدث موسيقي في القرن العشرين: "لايف أيد"، حين اجتمع في صيف العام 1985 عشرات من مغني العالم وموسيقييه في لندن على الجانب الشرقي من المحيط الاطلسي، بينما كانت فيلادلفيا محطته في الجانب الغربي من المحيط. الاغنية كانت لمسة مبدعة وانسانية منك ستواصلها لاحقا باعمال من هذا النوع كما في " إشف العالم" و "أغنية الارض". وطالما نحن في حديث المكاشفة فلابد من القول انني لم أحب كثيرا من اغنيات اسطوانتك التالية"باد" 1987، ففيها الكثير من الاستعراض غير المقنع لا في الموسيقى وحسب، بل في اظهارك عبر معالجات صورية في "الفيديو كليب" بقدرات خارقة في قتال الاشرار، وفي اغواء الفتيات وغير ذلك من المشاعر الخارجية، التي هي غير عملين جميلين في الاسطوانة احببتهما كثيرا: "مان إن ذي ميرر" و" لايبريان غيرل" ولطالما كنت اعتبرت الاغنية الاولى في كثير من مراجعاتي النقدية لاعمالك، دالة على قدرة الاغنية، وتحديدا عندك، في الامساك بروح الانسان العميقة، لا مشاعره الخارجية، لجهة دعوته عبر "نظرة في المرآة" الى مراجعة حياته وتصحيح المسار الخاطىء فيها. حماستي لهذه الاغنية بالتحديد جعلتني اشعر بالفخر حين اختارت محطة "سي أن أن" عنوانها اسما لبرنامج خاص عرضته بعد إسبوع على رحيلك، كأنها في ذلك اكدت رؤيتي الى قيمة هذه الأغنية العميقة والى كيفية تحولها الى نذير سيلازمك حتى النهاية، فكم كنت بحاجة الى " مان إن ذي ميرر" والتطلع في ملامحك ومنها تنطلق الى السؤال: الى أين انت ذاهب؟
العام 1991 : اسطوانتك التي ضاعت بين ركام الحرب كنت عائدا عبر طريق الموت في شباط 1991 من حرب كسرت ظهر العراق، وجعلتني غير قادر لنحو شهرين من التواصل الحقيقي مع أقرب الناس، لفرط ما خبرت من موت ورعب، غير أنني بالكاد تحاملت على آلامي حين عرفت ان محلا للموسيقى في "عرصات الهندية" ببغداد بدأ بيع اسطوانتك الجديدة حينها " دينجراص" التي أحببت فيها غلافها الجميل الذي صاغ من ملامحك لوحة فانتازية، غير انني لم اجد في اغنياتها ما يستحث الانتباه سوى في اثنتين: " دو يو ريممبر ذي تايم" و" هيل ذي وورد". الاولى ادهشتني مرتين، مرة للحنها الايقاعي الرشيق والجميل الذي يمتد الى شكل " الريذم والبلوز" كما يعرفه نقاد الموسيقى، ولمعالجتها الصورية التي نقلتك الى تاريخ مصر القديمة وقدرتك مغن وراقص في ان تدهش الملكة الضجرة من سطوة الملك، وهي معالجة جاءت برموز اميركية لتشترك اكراما لك في تصوير الاغنية، علما انهم كانوا اقل من حشد فنانين كبار يتقدمهم المخرج ستيفن سبيلبيرغ وهم الذين كانوا اشتركوا في تصوير اغنيتك " لايبيريان غيرل". الاغنية التالية التي وقعت عندي موقع الاعجاب كانت اغنية " هيل ذي وورد" التي كنت فيها اقرب الى تصوير حال ملايين من العراقيين الذين كسرت ظهرهم حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل انك كنت تلعب على مشاعري الخاصة حين كنت تجعل طفلة جميلة تركض وهي تمسك بوردة بين مشاهد الخراب التي انتهت اليها الحرب، كانك بذلك كنت تصوري حياتي وقد انتهت الى مشاهد الخراب تلك.
" هستوري".. حين سنتي الثانية في المنفى في العام 1995 كانت سنتي الثانية قد بدأت حين اصدرت إسطوانتك المزدوجة " هستوري" وكانت فعلا تصويرا بارعا لتاريخك الشخصي الحافل باللمسات الغنائية والاستعراضية المدهشة، لكن الامر كان مختلفا كليا، فلا الصحبة اياها، كي نبتهج بما تقدمه من الحان كما كنا نفعل عادة في بغداد، و لا التلقي ذاته لما أكتبه من نقد حول اسطواناتك، رغم انني كتبتك عن جديدك في صحيفتين عربيتين الاولى تصدر في عمّان والثانية في لندن، وقد تكون مشاعر غربتي عن بغداد التي عرفتك فيها واحببتك عبر اثيرها، سببا لغضب ما كان حاضرا في ثنايا ما كتبته عنك، لا سيما اصرارك على الظهور بصورة البطل الذي لا يجارى في اكثر من فيديو في اغنيات الاسطوانة التي لم يكن الجديد فيها يشكل الا نسبة بسيطة فيما الغالب كان استعادة لاغنياتك القديمة. وعلى الرغم من هذا الا انني احببت نشيدك في " اغنية الارض" حيث كنت رائدا في قضية الانتصار للبيئة التي لوثها الانسان بانانيته الصناعية وفساده الاخلاقي والفكري عبر سلسلة حروبه. كما احببت التصوير والمعالجة اللحنية في اغنيتك " غريب في موسكو" التي تصور غربة حياة الفرد في المجتمعات المحكومة من الانظمة الديكتاتورية ومنها المجتمع الروسي.
إسطوانتك الأخيرة وتداعيات العام الرهيب 2001 في اسطوانتك "انفينسبل" الصادرة في العام 2001 الرهيب، عام الاعتداءات الارهابية على اميركا وبدء موجة حروب الانتقام الدينية، لم يمكن سماع صوتك الا وتحضر ملامحك الجسدية الناحلة، الشاحبة التي خضعت لعشرات عمليات التجميل السرية والعلنية ، ولم يكن ممكنا سماع صوتك المنبعث من نتاج روحك المحاصرة بالاضطراب والتقوقع . أحزنني أنك لم تحصل عن اسطوانتك التي ستكون الاخيرة، الا على ثلاث نجوم من اصل خمس، ولم تتمكن مبيعاتها من تغيير الانطباع النقدي عن المستوى العادي لموسيقى اغنياتك الجديدة والحانها. وفي حين كان عنوان الاسطوانة مأخوذا من عنوان اغنية تتضمنهما "انفينسبل"، فان هذه الاغنية كانت عادية في لحنها الذي قارب ايقاع «الراب» الراقص، مثلما هي حال اغنيات لا تبدو جديدة، بل كان المستمع الذي عرفك، يجد نفسه في اجواء اغنية اخرى عرفها من قبل. افضل ما في الاسطوانة، عدد من الاغنيات الهادئة المحتفلة بالمعاني الوجدانية العميقة كما في «بريك اوف دون» حيث العناية بملامح الحياة، وهي تتفتح مع «بزوغ الفجر، او في تلويح الوداع التي تضمنتها «دونت ووك اواي»، كذلك لمسات الشجن والحنو الانساني في اغنية "كراي" بينما تظل لاغنية «ذي لوست جيليدرن» مساحتها الحميمة التي وفرها جو طهراني اشاعة استخدامك كورال الانشاد الديني "غوسبل" واصوات اطفال تأتي كأنها الحبور، فيما انغام الغيثار الصافية ترسم جوا من الصفاء النادر، يذكّر باغنيتك التي تنتصر فيها للطفولة "هيل ذي وورلد". أكتب لك حيث جثمانك مغطى بورد الحب الاحمر، وحيث أخوتك وابناؤك ينعوك في مزيج من الحزن الشخصي والاخلاص لكونك من صانعي النغم المعاصر، فكان لابد من الحان، ولابد من اصدقاء يغنون بينهم حضر البصير المدهش ستيفي وندر، ومن شاركك كتابة الاغنية الرائعة " نحن العالم" ليونيل ريتشي. كنت تتساءل في اغنيتك " هل تتذكر الوقت"؟ فاقول: كان وقتا جميلا يا مايكل أواريه الثرى معك الآن، حيث أشعر بغربتي عنك مع أنني في بلادك، فيما كنت قريبا جدا اليك وانا في مكان قصي عنك! وداعا ايها الوحيد رغم كوكب كامل منشغل به!
*نشرت في المجلة الثقافية الشهرية "تاتو" التي تصدرها دار المدى في بغداد.
|