نقد أدبي  



رسمي أبو علي: ردع الألم بابتسامة ومواجهة الفظاظة بالحزن النبيل

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       23/04/2010 06:00 AM


رغم ان رسمي أبوعلي يشير في كلمة وضعها أول مختاراته القصصية، الى ان الصدفة لعبت دورها وأعطت كتابه عنواناَ شاملاَ هو " ينزع المسامير ويترجل ضاحكاَ " الا ان القارئ ما ان ينتهي من الكتاب ليكتشف ان لا صدفة في الأمر , فالقصص وبنيتها الحكائية انبثقت بمجملها من الحياة التي خبرها أبوعلي وعاشها شهقة شهقة ( على مستواه الشخصي على الاقل ) , وهو في قصصه هو ذاته في الحياة مع بعض تعديلات غير جوهرية - إلا فيما يتعلق بتقليل التطابق التماثلي بين الكتابة والحياة , والذي يخلص النص من التقريرية والمباشرة - , والتعديل كان يجعل الواقعي محاطاَ بهالة من الحلمية والغرابة أحياناَ : " أنا رجل واسع المخيلة كثير الاحلام ومن طول خبرتي في هذه الحياة بت لا استبعد شيئاَ " , وهو من الواقع كان يخرج بدلالات لأشياء تحدث صدفة لنكتشف انها من صميم فكرته ومبتغاه من معاشرة الحياة , فهو في قصة , حكاية طويلة جداَ أسمها أوميدا , يقول في آخر خمسة سطور منها : " ولدت في الحادي والعشرين من آذار / عيد الربيع عيد الأم / اسمها : أوميدا اي الامل / جاءت في زمن الانتفاضة / لا شيء يحدث صدفة " . أو ما حصل في نهاية قصة " الشجرة " التي لم يبق منها الا غصناها العلويان على شكل حرف V  باللغة الانجليزية الذي لا تخفى دلالته أي ( النصر ) أو شارته . وما حصل في قصة " هوب .. حمامة واقفة " يؤكد هذا الملمح , حيث تأتي حمامة وتطير , كأنها " بشارة السلام " ! 
ومن هذا التطابق التماثلي ما بين الحدث والدلالة , نجد مستويات متعددة من إيجاز الفكرة ووسائل تنفيذها في القصص التي وزعها أبوعلي على ثلاثة أجزاء : الاول هو مرحلة بيروت وتضمن القصص المكتوبة ( 1977 - 1982 ) والثاني مرحلة ما بعد بيروت ( 1983 - 1987 ) والثالث العودة الى عمّان ( 1987 - 1993 ) , فهناك التهكم والسخرية الشديدة والتي كانت لافتة الحضور في قصص الجزء الاول , التهكم من الضجيج الذي تشعله الشعارات , والقضايا الكبيرة , بجعلها تقابل اشياء متحققة وملموسة في الحياة : " كنا - ويشهد الله – من ذلك الصنف الأهبل من البشر الذي عشق الثورة عن جد واكتفى بفتات مما يرميه سادتنا المتنعمون " . أو حين يصف في نفس القصة " فنجان قهوة .. ربما كوب ماء .. لا " مشكلته مع ( أبو أحمد ) مسؤول الخدمات الساخنة في دائرة الاعلام والثقافة في م . ت . ف , حين يقول " لأنني خفت ان يتقلص تناقضي الرئيسي مع الامبريالية الى تناحر رئيسي مع أبو أحمد " . والتهكم من نمط من البشر تضيق معهم الحياة , ويضيق معهم بل ويندر الوجدان : " لانها لم تقابل واحداَ من ذلك النوع من الفلسطينين الذين بوسعهم ان يجعلوك تركض حوالي ألف ميل مبتعداَ عنهم " . 
ان ( واقعية نقدية ) ما تنتظم فيها قصص أبوعلي , لا لمقاربتها مراحل من حياته التي كانت ايجازاَ لمراحل من وعي فلسطين : القضية / الفكرة / الثورة / الوطن , بل لمقاربتها المصائر الانسانية المبثوثة في جوانب الواقع الذي عاش ورأى وتعب : " ماذا جنيت منهم غير الالام ؟ لقد دخلت بقلب صاف ساذج , وبعد هذه السنوات الطويلة , جردوك من كل شيء ما عدا كبرياءك وشرفك , هذا هو منطق الأشياء " .
 

رسمي أبو علي: نسق يحترم الكتابة ولا يبتذل الحياة

ان هذه ( الخلاصة ) شديدة القسوة ولكنها لصدقيتها الشديدة , - حيث تبدو حصيلة كل من يحيا قضية بتجرد عال وبوعي يتداخل فيه المعنى والضمير - لتغدو نتيجة طبيعية لافتراق شرف القضية عن خديعة الذين يتبوأون مراكز قيادتها , غير المشغولين طبعاَ بضمير كاتب أو سؤاله استغراباَ عن اندراجهم في اساليب لاعلاقة لها بالقضية ولا بشرفها , ورسمي أبوعلي ينجح في رؤيا تبلغ درجات عالية من الصدق فهو إذ يوجه اسئلته في قصة تعود في تاريخ كتابتها الى 1977 وهي " الطائر الذي فقد ريشه الملّون " , نجده وقد قارب ما ( انتهت ) اليه القضية التي كانت تشهد تقاطعاتها العنيفة وإحتمالاتها الصاخبة : " هكذا هيأت نفسي لأحزم حقيبتي وأغيب الى الابد .. نعم سأغيب , ولكنني سأرسل بطاقات صامتة الى حبيبتي فلسطين , وستفهمني , وإذا لم تفهمني فبوسعها ان تذهب بدورها الى الجحيم اكثر مما هي ذاهبة " . 
في تلك القصة قدّم أبوعلي بياناَ مكثفاَ يصلح ان يكون رثاءَ لكل القضايا النبيلة والعظيمة لا بفكرة ضدية جاهزية حمقاء وخارجية , بل اعتماداَ على وجدانية مجروحة : " ستكون فلسطين بعيدة , هكذا ستبقى جميلة مدماة حتى نهاية الزمان " . 
ان عناية رسمي أبوعلي ( بأنسانية ) المشاهد التي عادة ما تخلفهّا (القضايا الكبرى) غير مهتمة بها , كانت تتصل دائماَ بفكرة صافية مفادها : " لأنني أعتقد إنه ما من شيء في العالم , سواء أكان مصيبة أم كارثة , جديرة بان يضعنا في دائرة الفظاظة , لقد لاحت لي الفظاظة ومشتقاتها على الدوام صرخة حقيرة في وجه التماسك الحزين النبيل " , وموقفاَ كهذا كان من الطبيعي ان يوصل الى ردع الألم بأبتسامة , فيما التجربة وإن كانت ( ألماَ ) تصبح صدقاَ عند رسمي أبوعلي فهو على نقطة افتراق مع كثير من الكتاب الذين يمضون أوقاتهم في الحياة بطريقة خرقاء , فلا هم يشرّفون الكتابة ولا هم يحترمون الحياة . انه استثناء من تلك ( الكثرة ) حيث يربت على ثنايا المشاعر في كتابته , بطريقة تحترم الكتابة ولا تبتذل الحياة .
الكتاب: ينزع المسامير ويترجل ضاحكاَ (مختارات قصصية)
المؤلف :  " رسمي أبو علي "
الناشر  :  " وزارة الثقافة الفلسطينية - دار الناشر - رام الله 1997 "
 
*نشرت في صحيفة "الرأي" الاردنية.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM