نقد أدبي  



فهمي جدعان: مقاربة لأزمة الانسان العربي

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       23/04/2010 06:00 AM


في كتابه "الطريق الى المستقبل"( أفكار- قوىً للازمنة العربية المنظورة ) والصادر عن دار " المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت " يقول الدكتور فهمي جدعان : " انه عمل ( تأسيس ) اجتهادي أقدّر أنه يجسد جملة تأملي وفهمي وتصوري وتقديري للقضايا والمسائل والوجوه التي اعتقد انها جوهرية مركزية حيوية في وجودنا المعاصر، عند نهاية هذا القرن الذي يوشك على الرحيل وبدايات القرن الذي يعلن عن نفسه على نحو صارخ منذ الان . " ويضيف في مقدمته للكتاب مؤكداَ المعالجة الفكرية الشخصية لموضوعات الكتاب قائلاَ : " إن ما اسوقه هنا في هذا الكتاب ليس إلا نظراَ ( شخصياَ )، إجتهادي أنا في المسائل التي اعرض لها مما أقّدر انه يتصدر القضايا والمسائل التي تفرض نفسها علينا بألحاح شديد ، وحين أقول إنه نظر إجتهادي شخصي فأنني بكل تأكيد لا أعني انه نظر ( ذاتي )، بمعنى انه محصّل انطباعات نفسية أو شعورية، أو انه تجسيد لحالات ( وجدانية ) أحياها أو اعاني منها ولا رابط يصلها بالواقع الخارجي ".
 " الشخصي " هنا، لا يبعد الكتاب عن فكرة الموضوعية التي رافقت جوانب كثيرة من فصوله، فالافكار ظلت تحريضاَ ( شخصياَ )، قبل ان تتحول الى امتثال جماعي، ولاحقاَ تغييري . ورغم هذا ورغم شمولية جوانب الكتاب فالدكتور فهمي جدعان، لا يزعم انه يقدم ( مشروعاَ ) للنهضة أو للحياة .. فالفكر الفردي وحسب ما يراه المؤلف يظل بعيداَ عن التحقق الفعلي ! غير انه يظل جذاباَ ومثيراَ للاهتمام عند طائفة المثقفين الحالمين .
 انه عمل بنائي نقدي يوجه النظر الى " الطرق المسدودة " والى " المسالك النافذة " في آن . اي انه يعكف بالنقد على مراحل فكرية وحياتية استهلكت في فترات زمنية ماضية , وينوه عن آفاق ما للخروج من الازمة .. هكذا هو عمل ( تنويري ) بالمقام الاول , يخرج على التوصيفات الفكرية المعلنة والمطروقة دون ان يتوهم انقطاعه التام عنها , هو يتصل معها بالمراجعة والنقد واعادة النظر .
   والدكتور فهمي جدعان , نوه عن حيثيات الكتاب التي نضجت ومعها تم التخطيط لمشروعه  أثناء تسمية جدعان . استاذاَ زائراَ في " الكوليج دي فرانس " خلال العام الجامعي 1990 / 1991 , ومن هنا جاء التذكير بالثناء على أندريه ميكيل , استاذ الدراسات العربية فيها . و دكتور جدعان نال شهادته – دكتوراه الدولة في الاداب – من جامعة السوربون بباريس . وهو استاذ جامعي للفلسفة والفكر العربي والاسلامي .
وقد منح وسام سعف النخيل ( فرنسا – 1986 ) ووسام القدس للثقافة والاداب والفنون ( فلسطين – 1991 ) وجائزة الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية ( الاردن – 1992 ) .
   له مؤلفات وبحوث عديدة منشورة ( بالعربية والفرنسية والانجليزية ) , منها بالغة العربية : " أسس التقدم عند مفكري الاسلام في العالم العربي الحديث – 1979 " و " نظرية التراث – دراسات عربية واسلامية أخرى – 1985 " و كتاب " المحنة : بحث في جدلية الديني والسياسي في الاسلام – 1989 " .
وقد تضمن كتاب " الطريق الى المستقبل " عدة فصول هي : " هواجس التفسير والجدوى " و " نقد الفعل " و " المؤتلف والمختلف " و " الاسلام في العاصفة " و " التواصل " و أخيراَ " حوار مع اليأس " . وقد أنبنت تلك الفواصل على هيكل بنائي مترابط فما يبدأ به الكتاب عبر فصله الاول يقود الى الفصول اللاحقة بترابط عضوي . 
فأعتماداَ على نقد العقل , يبدأ الدكتور فهمي جدعان حيث يعول على " النظر الى الفعل ونقده واعادة بناءه لان العطب الشخصاني الذي نشهده يقع في دائرة الافعال , في جملة الكينونة الشخصية والاخلاقية , اكثر مما يقع في اية دائرة اخرى " , فهو بذلك يحيل الارتباك ومنظورات العطب والتخلف في مشهد الحياة العربية , لا الى الحط من قيمة الفعل بل في وجود الكثير من المؤشرات المهمة في هذا الاتجاه ( البناء العقلي ) . غير ان الحاصل هو في ضعف قوة الفعل الذي يحول البناء العقلي الى مفاصل حياتية تنقل الرؤى المغايرة من انجازها العقلي المجرد الى قدرتها على احداث التغيير عبر الفعل . وهو يتساءل في هذا الصدد : " فلو كان النظر العقلي , يفضي الى الفعل مع توافر الوسائل والادوات والجوارح .. لانحسمت المشاكل , ولاِنتفت المفارقة , لكن للواقع احكاماَ اخرى وهو يكذب تكذيباَ قاطعاَ , ان يكون العقل هو السيد المطاع وسيد الاحكام " .
   ومن قراءة نقدية لقدرة الفعل على احداث التغيير في مجتمعاتنا , الى بعض القراءة النقدية الموازية , والتي تطال الفهم السيكولوجي والتركيبة ( الاخلاقية ) للمجتمع العربي , حيث النزعة الذرائعية التي نشطت في جميع قطاعات حياتنا وأحدثت أضطرابات عميقة في جذور القيم التقليدية تولد عنها ذلك التدافع الشرس والهمجي في جميع مفاصل المجتمع والدولة وفي حياة الافراد , وتعالت الانا في انحطاط سلوكي واجتماعي : 
" ففي قطاع الحياة الاخلاقية يحرص كل الذين حولنا على أن يظهروا في إهاب من يتمثل القيم على النحو الاكمل فليس ثمة من يبخس على نفسه من حظه التام من الفضيلة والاستقامة والنزاهة والصدق والأخلاق والوفاء , لكن الذين يعرفون الحقيقة يدركون بالخبرة ان واقع الأمر ليس على ذلك النحو دوماَ , وأن جملة هذه القيم المزعومة ليست إلا قناعاً قد وضع لاغراض لا يتعذر التعرف عليها " .
   ويرى الدكتور فهمي جدعان ان الممر الوحيد لعودة الانا الى حقل نشاطها الانساني هو بتحرير كل ما يربط الفرد بالمجتمع وبالدولة وبأعادة النظم الاجتماعية والسياسية والاخلاقية نحو مباديء افترقت تلك النظم عنها كثيراَ , وهي مباديء بل ثوابت الحرية والعدالة والمساواة والاشتراك في الخير العام .
   " وأما تحرير الانا الظاهر فيكون بإسقاط جميع الاقنعة والكشف عن ظاهر وجه يتمثل الوجود الحقيقي لصاحبه ويعكس روحه , وليس بتسير حرق الاقنعة الا بتحرير الروابط التي تصل الفرد بالمجتمع والدولة , وبإعادة بناء النظم الاجتماعية والسياسية والاخلاقية على قواعد مباينة للقواعد القديمة " .


المفكر فهمي جدعان: البناء الاجتماعي العربي قائم على الحط من قيمة المواطن
 
   ويضعنا الدكتور فهمي جدعان ويضع فهمه أيضاَ في أكثر الدوائر إثارة , اذ يقترب من تحليل بنية المجتمعات العربية ويصف عبثية محاولاتها في الدخول الى عالم حديث حقاَ . فمثل هذا العالم لا يتسع لامةِ تحكم بناءها الاجتماعي فكرة قائمة على الحط من قيمة المواطن دائماَ , فكرة السيد بالعبد . وقيمة الفعل التي يعلي شأنها المؤلف تأتي من خلال قدرتها على احداث تغيير حقيقي في تلك ( الانا ) التي تعرضت لتشوهات عديدة , وفي هذا الصدد يمنح المؤلف , المثقفين من اصحاب الرسالات التنويرية والنهضوية , دوراَ مهماَ في انتاج الوعي ضمن قطاعات المجتمع العريضة .
   ونظرة دكتور جدعان نحو المثقف لا تتسم بالعمومية فهو يراه مثقفاَ سياسياَ فيه نموذج المثقف المدجّن , والاتباعي التقليدي وكذلك الحداثي . وفي تلك النماذج نجد الاغتراب عن الحاضر والمراوغة والالتواء , بينما نجد المثقف الايديولوجي يعالج القضايا بافكار جاهزة , وثمة الاكاديمي الذي لا يفقه شيئاَ من غير تخصصه . ويخص الدكتور جدعان الشاعر بمحدودية الفعل , على العكس من نشاط الروائي الذي يراه معرفياَ . وعموماَ يرى المؤلف في المثقف لا مهمة التنظيم الايديولوجي أو القيادة الجماعية , بل يرى فيه فاحصاَ للقيم والدليل الى الجوهري منها . 
الترفع عن الخوض في مجالات الصراع الايديولوجي والعقائدي يذكره المؤلف في اكثر من موقع , لكنه يخص هنا الابتعاد عن الصراع الايديولوجي والعقائدي وبالطريقة السلبية التي اعتادتها المجتمعات العربية وتنظيماتها السياسية . وهو بذلك لا يعدم فكرة الأختلاف , بل ان ما يميز حياتنا الفكرية والسياسية , خلوها من ممارسات تعميق التعددية والحوار مع الرأي الاخر .
وعن التحدي الذي تعلنه ( الحداثة ) على مجتمعاتنا , يفرد المؤلف دكتور فهمي جدعان حيزاَ خاصاَ , ويراقب الموقع الذي تتخذه القيم الدينية الاسلامية . ازاء تلك التحديات , والتي تأخذ اشكالاَ مباشراَ في ضغطها على السائد في المعتقدات , ومنها تحديات الاعلام وبكل وسائله المتداولة السمعية والبصرية . وعلى الرغم من سمة موضوعية نجدها في غالبية فصول الكتاب , غير اننا نتعرف على تعميمات لا تخلو من ترف ذهني , كلما ابتعدت توصيفات المؤلف للظواهر ومرجعياتها عن كشف سبيل معالجتها .. فهو حين يسمي الديكتاتوريات والتسلط القمعي كواحدة من معرقلات تطور الانسان العربي , يدعو لاحقاَ الى التحلي بالنظرة القومية في المعالجة دونما وضع حدود بين نظام وآخر ... لاغياَ بذلك ارتباط القومي بالوطني وهذا ما ذهبت اليه حالة العديد من الانظمة العربية وفي الربع الأخير من هذا القرن بخاصة , فهي حين أذلت شعوبها وجهت بذلك ضربة قاصمة للمشروع النهضوي القومي ككل . 
دكتور فهمي جدعان كان قد وصف كتابه كعمل تنويري نقدي تحليلي , ينبه الى الطريق المسدودة , ملمحاَ الى امكانية سلوك طرق اكثر جدوى , يرى انها ممكنة عبر المقاربة ما بين المبادئ المتصلة بالنزعة الانسانية والعقلانية وخطوات " البراغماتية " العملية ويقول : 
" مع تسليمي في استخدام العقل بتسيير حياتنا , فالعقل العربي سليم من حيث البنية وتنظيم التصورات واقتراح الافكار والربط بينها , لكنني اعتقد ان الخلل في الفعل وليس في العقل كما ذهب لذلك بعض المستشرقين " . وأزمة الانسان العربي يراها دكتور جدعان متمثلة في عطب أصاب الوجود الداخلي للانسان , والغائه لقيم درجت عليها حضارتنا مثل الحرية والكرامة والانسانية .

الناشر : المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 1996
452 صفحة من القطع المتوسط ..



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM