نقد أدبي  



أمجد ناصر في (خبط الأجنحة): نثر حميم في تصوير الأمكنة و المواقف ..

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       20/04/2010 06:00 AM


في كتابه " خبط الاجنحة " الذي يوضح متنه، العنوان الثانوي - سيرة المدن والمقاهي والرحيل -، لا نتعرف على سيرة شخصية ولا رسم لحكايات ذاتية، بل ان الشاعر أمجد ناصر هنا، يقيم في كتابه من ثنائية ( المدن / الرحيل ) اي بمعنى اَخر ( الاقامة / الغربة )، شبه موضوعة نسجت فصول الكتاب : المدن / الشخوص /الامكنة / المشاعر المتبادلة / المخاوف / الاطمئنان / الكتابة / الشعر /، ودائماَ عبر سؤال الذات المفاجئ: ماذا يعني كل هذا التطواف ؟

وجوانب أو اشكال الموضوعة هذه، وإن ذهبت الى الثبات احياناَ - الامكنة وتفاصيلها بخاصة  - ظلت تشتغل على خفايا الشوق والحنين ومرح الاكتشاف، فلا القاهرة التي جاءت في الكتاب، تشبه الصورة النمطية عنها، ولا نيقوسيا وهجرات المثقفين العرب والفلسطينين اليها، تشبه نيقوسيا المفتوحة لدعة السياحة واناقة مرافقها، ولا مناطق الريف الفرنسي، ولا أحياء لندن .. بل أنني شخصياَ كنت احاول التعرف على عّمان – حيث أقيم منذ سنوات – غير التي اعرفها منذ الثمانينات وحتى اليوم، ومع امجد ناصر، تيسرت لي سبل قراءة أمكنة ومشاهد بدت لي في غاية الترابط مع ما يحدث الان .

لا الامكنة حسب، بل المشاهد التي تنتجها تلك الأمكنة وحيواتها وحتى المنفرطة منها نجدها تتسق هنا، وانتظاماَ بالطريقة التي اعتمدها أمجد ناصر، فهي قطعاَ طريقة تحسب لمفهوم " المونتير " للبصر ودونما تساهل مع البصيرة ... وهذا الانشغال بالمشهد الكبير، جعل من أمجد، اقرب الى التسجيل لحال  جيل منه الى الحديث عن مسار فكرة شخصية حملها بجدية وصرامة ظهرت على الاقل في عزلة تتعدد صورها .. وظلت أكثرها حظوراَ تتمثل في عزلة من نوع : لا الاردنيون حسبوني أردنياَ، ولا الفلسطينيون حسبوني فلسطينياَ ... هنا تخرج الفكرة عن قرابة شكلها الخارجي ( الهوية ) وتتصل بامتدادات اعمق لها علاقة بشكل الاختلاف الثقافي والمعرفي .. هكذا نجد أمجد ناصر خارج التمحورات التقليدية وخارج الانتظامات القسرية التي بدت تحصيل حاصل بالنسبة لكل مثقف عربي أختار النفي والهجرة، فهو هناك سيظل ملاحقاَ، بجملة من الاضطرارات، تبداَ من سؤال الكينونة الذي تعززه الغربة، ولا تنتهي بيوميات من نوع من أين تأمين لقمة العيش ؟

الشاعر والصحافي الاردني المقيم في لندن امجد ناصر

        الكتاب بفصول عدة، تبدأ من مغادرة أمجد ناصر نيقوسيا الى لندن فيما كان هذا الاحتمال غير قائم اطلاقاَ، ضمن جملة خيارات جاءت بها أزمة الوجود الفلسطيني/ العربي في قبرص وحمل الفصل عنوان : " نحو الغرب " وفي فصل اَخر نقرأ تفاصيل عن القاهرة " ملاقاة القاهرة "، وقراءة أمجد هنا لمّاحة وسريعة دونما افتقاد لعنصر يعمقها الا وهو التكثيف .. وهذا ما اعزوه شخصياَ، الى مرجع الكاتب المعرفي والثقافي وتجربة الحياة ايضاَ، وفي هذا الفصل نقرأ عن الحدث الذي جاء بأمجد الى القاهرة " ايام فلسطين الثقافية والفنية " في ذات الوقت الذي نكتشف فيه نفوس كثيرة من أهل المكان ( المصري ) ومن أهل الحدث ( الفلسطيني )، وعبرها نكتشف أساليب وعي وطرق كتابة وأشكال علاقات مع الناتج الكتابي والفكري . كذلك علينا ان ننسج تكوينا ان شئنا، هو نسيج القاهرة الصاخب والحيوي في اَن .

         ويظل لفصل " العودة الى البيت " والذي يسجل عودة الشاعر أمجد ناصر الى وطنه  الاردن، وقعاَ خاصاَ من بين فصول الكتاب . فهو عائد اليه بعد أربعة عشر عاماَ من الغياب،  من الغربة ومرارة النفي ووطأة خسارات من كل نوع، وفيها تشكلات وعي وطرق كتابة ونهج حياة أو أكثر .. هي عودة " لأمتحاناَ للحنين " . المفارقات تبدأ على العائد منذ نقطة وصوله الاولى " المطار " انتهاء بتحول المكان الى نقطة جذب عنيف . مع غزو القوات العراقية للكويت، وفوضى الافعال وردودها التي أحدثها ذلك الغزو على عمّان والاردن بشكل عام .. وبعيداَ عن الاحداث الخارجية وتتابعاتها السريعة، يأتي فصل آخر عن عمّان هو : " عمّان : المقاهي، الكتابة، الاصدقاء " وفيه كشف ممتع عن المدينة، ثقافياَ وحياتياَ في ايام السبعينات بخاصة .. وعبره نتعرف على عتبات الكاتب في المعرفة، في النساء، في الكتابة، في العلاقة بين الثقافي والسياسي .. وما ان ننتهي منه حتى تكاد صورة ما لعّمان في السبعينات قد تشكلت في اذهاننا ... وما بين الشعر كممارسة كتابية وشكل استجابة لتراكمات وعي وبين وصف الامكنة والاصدقاء، تأتي فصول : " الشعر وليس بلاط الشهداء – بواتييه / فرنسا " و" البحث عن أبي عبد الله الصغير – غرناطة " و " العزلة حصيفة ومتعالية – غلاسكو / اسكتلندا " و " القاهرة والصحراء – لاروشيل / فرنسا " . وفيها نكتشف ايضاّ ما هو أعمق من قراءة الشعر حيث يدعى أمجد ناصر للمهرجانات، أو وصف الامكنة : انه الكم الوافر من المعلومات عن تلك الامكنة تاريخاّ واجتماعياّ وطريقة ربط ذلك الكم المعلوماتي في مقالة لها علاقة بالحديث عن مهرجان شعري او ما شابه ... وفي فصل " مساءلة الحنين " يصدمنا أمجد عبر سؤال : ما البيت ؟ ما الوطن ؟ وفيه تسجيل لعودة ثالثة ( صادمة ) الى عمّان .. حيث لا يأويه مكان وهو في مدينته وعند اهله، غير سرير الفندق !

ومن المنفى – المكان، نصل برفقته الى توصيفات اخرى للمنفى ليصبح : الكتابة، إذ يقول : " ليس في ( منفاي ) الان اي قسر، كان السبب الظاهري لما ظننته منفى بادئ الأمر خارجياَ لا يتصل بعملي الشعري ولكنه انتهى تاركاَ حيزاَ لمنفى : الكتابة". وفي عودة الى القاهرة، مرة أخرى للقاء الشعر والشعراء .. لتلمس الانهماك في شعاب الكلمة وروحيتها يكون الفصل الاخير من كتاب أمجد ناصر " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين "، ويتركنا في آخر سطوره ( آمناَ )، وهو في دثار البعد، فيما نحن نقرأ في وثيقة ونقلب وقائعنا الشخصية على جمر بلداننا / حقائقها المرعبة ...

الكتاب : خبط الاجنحة.. 246 صفحة من القطع المتوسط

الناشر : رياض الريس للكتب والنشر – الطبعة الاولى لندن 1996 ...



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM