مقالات  



كونفرسانو ... شعر في الجنوب من جهة المتوسط الاخرى ..

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       20/04/2010 06:00 AM


الاحد   6 / 8 / 1995

ركوب الطائرة أشبه بمسرَة .. خمس سنوات في العزلة، خمس سنوات في العثرات والتقتير والضنك ومحاكاة الألم .. الى جانبي الشاعر عبد الوهاب البياتي يغالب أنفاسه المتقطعة بأبتسامة وسيكارة بين أصابعه . من نافذة الطائرة تتوالى الأمكنة وتتباعد الفاعلية البشرية على الارض .. أرتبك كثيراَ حين ترتفع بنا طائرة الملكية الاردنية فوق معالم المدن الإسرائيلية وتتجاذبني مشاعر مضطربة حتى يفاجئني إنفتاح البحر . خط الموج الأخير الذي يلامس الساحل يبدو مختلفاَ، متعرجاَ ويميل للبياض كأنه ناحل لفرط رحلته الطويلة. ها هي الجزر المنثورة في البحر، حد انها نقطة وبعضها يستغرق إنتباهات تطول وتثير الملل . الغيوم دخان سيكارة كونية أحياناَ أو تبدو كأكوام القطن في محل الندّاف جارنا في مدينة المسيب .. مات ولم يكلف أحداَ لقطن تابوته !

 روما تقترب تقترب والطيران الخفيض يوفر فرصة للغريب مناسبة لرؤية المدينة حسب طريقة المشهد الواسع وهذا ما يبحث عنه .. ضواحيها مجرد ضواحي، غير أن الخضرة لافتة وتنسجم مع زرقة الماء في أحواض السباحة التي تضمها البيوت الكبيرة المنعزلة بين مساحات الخضرة . ريف غامر والحقول لها سطوة على العالم . مطار روما يكتظ بالطائرات، إقلاع وهبوط لا ينقطعان والعالم في صالة واحدة يجتمع " انه قرية صغيرة بحق .. أشكال من كل نوع وحقائب تختصر الغايات والسبل ".

الأثنين   7 / 8 / 1995

       صباح الجنوب الايطالي : صباح حقول الزيتون و " فندق الشمس " ينام هنا بين بيئة ريفية لا هي تشبه ريفيتنا ولا تنتمي لمدينتهم .. الناس في كونفرسانو حيث تشهد فعاليات مهرجان ثقافي سنوي، فيه الشعر، الموسيقى والمسرح وأنشطة أخرى. أناس في غاية اللطف والرقة يتوزعون في أمكنة المدينة القديمة في تجمعات تدل على حيويتهم وفسحة الفاعلية الانسانية التي تتيحها لهم المدينة .. اشياء تنفتح على براءة تستدعي الزائر للتدقيق في الملامح القديمة للبنايات، شكل الطرق والشرفات بأسيجتها الخشبية المزينة بزهريات ورد طبيعي ونباتات زينة ظلية. الزائر يبدو مأخوذاَ بمرح الناس على امتدادات الساحات ولمعان أرضيتها الحجرية الصقيلة .. الأطفال ينثرون ما يشبه الرمل الناعم على الحجر يتحول الى فرقعات مضيئة حين تدوسه الأقدام .

 

الثلاثاء   8 / 8 / 1995

       مبنى سان بنديتو مشع وقديم، باحته واسعة ونوافذ كثيرة تطل عليها . هنا سنقرأ الشعر .. جفنة قديمة امتلأت بشمع البارافين وأوقدت، وراح الفتيل يتمايل بضوئه النحيل . لمسة جميلة هذه تذكرنا بفكرة الشاعر إذ يضئ . ثلاثة شعراء من ايطاليا قرأوا الشعر ولم نتصل بحقيقة نصوصهم فلم يترجم لنا احد ما قالوه .. كذلك الحال مع اليوناني تيتوس باتيركيوس الذي حرص في لمسة جميلة منه، حرصه على لغته الوطنية إذ قرأ نصوصه باليونانية على الرغم من معرفته التامة بالايطالية فهو يكتب البحث والدراسة والشعربها ! الممثلة المسرحية الايطالية من نابولي، ماريا بيانكو، إشتركت مع صاحب المهرجان، الشاعر والفنان المسرحي جينو لوكوبوتو في نقل شعر اليوناني الى الجمهور فيما كان ينظر نحوهما بأبتسامة خفيفة .. حان دوري للقراءة بعد تقديم مطول من الصديق المسرحي العراقي الذي غاب الى ايطاليا في هجرته السبعينية، عرفان رشيد ، ها أنا أجده لم يغادر بعد براءته الاولى وتدفقه وروحه الشفافة .. قرأت اول المقاطع من قصيدتين ترجمهما الفنان الاردني المقيم في ايطاليا ضرار حباشنة . وتولت نقلها بتأثر ظاهر – بصرياَ على الاقل – الفنانة ماريا بيانكو . الشاعر عبد الوهاب البياتي اختار بعض القصائد القصار من توهجات سيرته الشعرية المؤثرة . كنا نردد انا العراقي وبجانبي الاردني واَخر تونسي مع الشاعر بعض المقاطع، لفت ذلك بعض الحضور وسألني شاب ايطالي يرافقنا وبالأنكليزية : انتم من جنسيات مختلفة ( انا والتونسي) كيف ترددون لغة واحدة !! الشاعر العراقي والفنان التشكيلي فوزي الدليمي والمقيم في ايطاليا ترجم قصائد البياتي وقرأها بالايطالية جينو لوكوبوتو و أسهب قبل ذلك في تقديم البياتي الى الجمهور ...

علي عبد الأمير يقرا قصائده والفنانة ماريا بيانكو تتولى نقلها بالايطالية
 

الاربعاء   9 / 8 / 1995

         كنا قد توزعنا كوفود ومشاركات على فندقين، حضرت الينا، مجموعة البياتي من فندق الغراند الافخم مما نحن فيه، بحقائب ووجوه متعبة .. الفندق ألزمهم الرحيل حيث حضرت على غير موعد مجموعة كبيرة من ضباط حلف الناتو . القوة تطرد الفن، وهذه حكاية صغيرة أخرى عن علاقة ستظل منقطعة دائماَ !

نتجاذب أطراف الحكاية على المائدة، حيث يغدق علينا صاحب المطعم بالمقبلات والشراب والطعام . وقت يطول على المائدة هنا فيغدوا اسرافاَ . ينهض الفنان المسرحي والمخرج المعروف سامي عبد الحميد قبلنا ليأخذ قسطاَ من الراحة قبل عرضه المسرحي مساءَ . العرض حمل توقيع عزيز خيون أخراجاَ وزوجته الفنانة عواطف نعيم تأليفاَ، يشارك سامي عبد الحميد في التمثيل، الفنان اليمني صفوت الغشم . " أبحر في العينين " مسرحية من انتاج اتحاد المسرحيين العرب. أبدع في المساء الفنانان عبد الحميد والغشم وتجاوزا حاجز اللغة، واستطاعا عبر مهارة الأداء الجسدي ان يعطيا صورة عن مهارة الممثل العربي في المسرح ووعيه لإمكانات التعبير المعاصرة .. للمرة الاولى أجد جمهوراَ يصفق لمسرحية وبمشاعر غلب عليها التأثر الواضح على امتداد خمس دقائق متواصلة .


من سواحل المتوسط الشمالية..كاميرا:علي عبد الامير 2009 

الخميس   10 / 8 / 1995

        سان لورنزو .. ضاحية ريفية وأثر دارس .. قريباَ من مشهده الصامت ثمة أضواء وجمهور توزع المكان .. قصائد ثم موسيقى ترتجل في اطار تكويني أقرب للجاز، ثم ضربات على دف عربي وقراءات من الوجد الصوفي للمسرحي العراقي المهاجر قاسم البياتلي وحركات من رقص تعبيري ترافقه. قراءات للمسرحي عزيز خيون لمجموعة مختارة من قصائد السياب والبياتي الذي لم يحضر تقديم قصائده . فأنسل قبل ذلك من المكان بهدوء ورشاقة يحسده عليها الشباب منا ليقابل بعض وجهاء المدينة ونوابها ليعود الينا ضجراَ فالوقت مر حسبما افادنا في احاديث تافهة وتثير الملل . وسط هذا كله بدا لي واضحاَ إنهماك الناس في نقاشات دائبة وحوارات، همسات وعناق وأسراف أسراف في الكلام .. ثم انهم كانوا يحيطونا كضيوف بعناية وعناية مميزة . أخذنا الى بيته، السيد فيفر بيرلنغويريو، أحد موسوري المدينة وشخصية محبة للفن والادب . وتفرقنا كمجموعات في ارجاء منزله الرحب، ثم جمعتنا شاشة التلفاز معاَ كي نراقب اصداء هروب حسين كامل الى الاردن وتطورات الحدث وعبر الفضائيات العربية .

الجمعة    11 / 8 / 1995

      التقيت نهار اليوم بالشاعر اليوناني تيتوس باتيركيوس وتحدثنا بالانكليزية، عن قضايا تتمحور حول فكرة الشاعر، والاتصال المعاصر بالنص الشعري .. غمرني إحساس تام بالهدوء والعمق وأنا استمع الى ملاحظات هذا الشاعر الذي يأتي كتراتب جيلي بعد اليوناني ريتسوس والذي أرتبط معه بصداقة مطولة، أبتعد عنها لاحقاَ بحثاَ عن صياغات شخصية لفكرته عن الشعر .. يحدثني عن المؤثرات في نصه: الاسطوري، الفكر الشخصي، ثم محمولات الواقع، الواقع الذي ينتقل عند الشاعر من كونه وجوداَ خارجياَ الى أفكار محورة داخل الشعر.

الشعر في اليونان دائماَ دليل حيوية روحية، وحين يختفي الشعر تبدو الحياة وكأنها نائمة .. يتحدث بأطمئنان بالغ عن الشعر وتأثيره . انه يعتبره الحارس الاخير على اختلاف الكائن البشري وروحيته في ظل اتجاهات تقود هذا الكائن الى علاقات متشابهة .. انه يحيي الإختلاف ويذكي طاقة التعبير في اللغة الوطنية . وبعد رحلة كتابة طويلة تمتد لعشرة كتب شعرية وكتابين في النثر ومثلهما في البحث الاجتماعي وانشغال في الترجمة من والى الايطالية، الفرنسية والانكليزية . يتحدث عن مستقبل الشعر في اليونان بمحبة . يكفي حسبه ان ينشغل في الشعر العديد من الاجيال الجديدة والتي تكتب نصوصاَ ممتازة فيه .

السبت   12 / 8 / 1995

      نخترق باري المدينة الكبيرة في جنوب ايطاليا، صوب أخرى صغيرة هي مولفيتا .. ميناء صغير يكتظ بأشرعة سفن، وزوارق من كل حجم وصناديق ضخمة على الارصفة . كافتيريا صغيرة تجمعنا انا والبياتي الأنيس ورفيق السفر الذي فاجئني هنا بحيويته وفرط رقته . كان الجانب الأخر من الكافتيريا، مشغولاَ بالبحر وهو يرسل الينا تحيته الصاخبة . أمواج لا تنقطع من ضرب الساحل الصخري، فيما أرسل الينا صاحب الكافتيريا اشارة لموعد الاغلاق عند الظهيرة . مولفيتا الصغيرة تقفر ويذهب الوقت الى قيلولة في البيوت . عصراَ تنهض الحياة في باري لتلمس لطف نسيم البحر بعد ظهيرة ساخنة .. تكتظ الأرصفة هنا فيما أرى باري وهي تحاول ان تبدو متوازنة بدقة، قديمها على مهل يترك للجديد بعض المساحة كي يتشكل . فيما يبدو عابساَ مبنى الاوبرا القديم 1786 الذي احترق قبل فترة قريبة، وهو يرى انشغال الناس عنه . على الجانب الاَخر من المدينة يشهق عالياَ ستاد المدينة الضخم الذي شهد مباريات التصفية النهائية لمباريات كأس العالم 1990 .

الاحد   13 / 8 / 1995

     الحقائب تنتظم عبر مقابضها في الايدي، الحقائب صديقة الرحيل وتشتت الإقامة . في طائرة ايطالية نرتفع فوق باري ونطوف على سماء بحرية مطلقة . مطار روما ثانية .. أبحث عن جريدة "الحياة" في محل الصحف والمجلات، اتلقف متابعات الحدث العراقي المضطرب . هكذا يدخلني مؤشر التوتر والقلق .. اقترب من عمّان وها انا اعود الى تفتيت وقتي بين شحنات إنتظار ولحظات دأب وتوق بدت نادرة .. مرحباَ عمان ..



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM