قصص "أربعاء الصحو": ضمير الغائب يسود في كتابة قاص عرف بالصمت
عمّان – علي عبد الأمير لايبدو ضمير الغائب في قصص عبد الآله عبد الرزاق التي ضمتها مجموعة " اربعاء الصحو"، اختيارا عابرا، بل هو عمل مقصود لجهة قدرته عن التعبير على مأثرة الصمت التي ارادها الكاتب عبد الرزاق دلالة على نمط من المراقبة الصامتة، عاين من خلاله احداثا تراجيدية عصفت بالحياة في بلاده. وفضلا عن ضمير الغائب الدال على نزوع نحو تغليف الفعل الإنساني بنوع من التعمية والغموض، كانت هناك العناية عند الكاتب باجواء الترقب والإرتياب والحذر، حتى وهو يكتب بضمير المتكلم اربعا من قصص مجموعته الستة عشرة. في القصة الاولى "السور" جو سري غامض، يزيده غموضا وجود شخصيات ملتبسة الفكرة والمسار الحياتي "رجل يحمل بندقية يرافقه ابنه الصبي وكلبه ورجل ثالث يرافقه كدليل له ومجموعة من الرجال يحفرون لازاحة السور الطيني الملاصق لضريح احد الاولياء المجهولين وامرأة غريبة الاطوار،تتسلق نخلة طويلة، يبحث عنها الرجل حامل البندقية لقتلها حيث يتمكن منها. ونفهم من كلام الصبي انها أمه وزوجة الرجل حامل البندقية حيث كان يبحث عنها لكي يقتلها لسبب لم يفصح عنه الراوي الذي احاط الحدث بقدر من الغموض والسرية " . وما يحسب للقاص هنا، براعة في السرد ومهارة في مقاربة الجو السري الغامض ، ولكن المفتوح على جانب فسيح من التأويلات. واذا كان الكاتب عبد الرزاق الذي عرف بانه من صنف " الحكماء الصامتين " من الكتاب داخل العراق، فانه في قصته الثانية "اغنية البحيرة"، يتجلى في تحويل المراقبة الصامتة الى فن قصصي خالص، حين يروي قصة رجل ذهب الى البحيرة بقصد السباحة وطلب الراحة، ويتابعه بدءا من نزوله الى الشاطىء الى انشغاله برجل غريق حتى خروجه من البحيرة عند حلول الظلام .
في القصة برع عبد الرزاق في الوصف وتوظيف تقنيات المشهد السينمائي، لجهة العناية بالضوء والظل والماء والرمل، والإفادة من الفناء في التعبير عن ضآلة المصير الفردي . ومثلما برع الكاتب في الوصف، برع في الايحاء والتكثيف وتنويع فضاءات متباينة، فهو في القصة ذاتها، يروي حكاية رجل انتهت حياته غرقا بعد ان غاص الى قاع البحيرة بقصد التطهر من الذنوب والخطايا وهو يناجي طيف امرأة بعيدة او جسدا غائبا . كان الرجل فيه يغرق في ما كان صوت اغنية يأتي من مذياع مقهى البحيرة في مقطع رثاء للنفس . الرثاء يتحول الى مرثية للعمر في القصة الثالثة "سنوات" يتعرف الراوي بصعوبة الى امرأة داخل قاعة تشهد احتفالا . أمرأة كان عرفها من قبل، وهاهي الآن تجاوزت الخمسين وقد ذبلت فتنتها وتجعد وجهها. امرأة من الماضي، تنظر اليه خارج القاعة لاتتعرف ، فيفترقان في صمت حجري بارد . وفي "ثيمة" شغف بها كتاب القصة العراقيون، هي الحديث عن الموت تأتي قصة "رجل يكتب سيرته" التي يتداخل فيها الذاتي مع الموضوعي. هي قصة رجل تضطره ظروف البلاد التي انهكتها الحروب والحصار الى ارتداء ملابس والده المتوفى، حين لايقدر على شراء ثياب جديدة : القميص والبنطلون والحزام والحذاء. تردد كثيرا قبل ان يقدم على ذلك لكنه اضطر الى نبش الماضي ومعايشة ارديته، لتتحول حياته الى سلسلة من الكوابيس. انه من الصعوبة ان يعيش رجل حي في ثياب رجل ميت، ولكن الأصعب ابعد من الثياب، فهو التماهي مع الميت وسلوكه وفكرته " الاحساس بأني سألبس ثوبا او حذاء تركهما الميت يصيبني بالرعب" . الموت ذاتها يضغط بحضوره في قصة " العنكبوت" حيث عجوز يبيع الزهور:"رجل يوحي مظهره ومنظر أصص زهوره بالضعف الانساني. أوان فخارية وصفائح معدنية معروضة على الرصيف في يوم قائظ". تشتري فتاة من الرجل زهرة العنكبوت. نبات اخضر بأوراق خضر، ولكنه ذو اسم غريب ويدل على الوحشة . الرصيف دلالة في القصة على اتصال يالحدث السريع المفاجىء ، وهو مايحصل حين يموت بائع الزهور "تدوس الاقدام على الزهور وتبعثرها وتتكسر الاواني تحت ضغط الاقدام التي هرعت الى معرفة ما حدث". وفي قصة "اربعاء الصحو" التي منحت المجموعة عنوانها، مراقبة اخرى لمشاهد الموت ومراث للراحلين وللذين سيرحلون قريبا . الراوي (حسن المحمودي)، رجل تعود ان يجلس بين مدة واخرى في "مقهى الزهاوي" وسط بغداد ، تتملكه رغبة ان يذهب الى صانع الشواهد الرخامية الذي يعمل في محل مقابل للمقهى فيطلب منه ان يخط له اسم حسن المحمودي على شاهدة فيعطيه البائع موعدا نهائيا لتسلمها "الاربعاء المقبل" ويأتي في الموعد المقرر فيأخذ الشاهدة ويجلس في المقهى إلا انه يفقدها بطريقة ملتبسة. وفي الاربعاء الذي يليه يأتي الى المقهى متأملا وجوه الحاضرين آملا ان يجيبه احد عن مصير شاهدة القبر. تداهمه نوبة قلبية فينتفض هلعا إلا انه يسقط وسط ذهول رواد المقهى. وفي حين يكون في الطريق الى المستشفى مغالبا بعبث موتا مؤكدا، يكون عامل المقهى، وجد الشاهدة الرخامية المفقودة.
*نشرت في "الحياة" العام 2001 |