جبار ياسين:مثال لمثقف عراقي طوّع الغربة في نسيج روحي وفكري (كاميرا علي)
وصاحب كتاب " القارىء البغدادي" مثال لمثقف عراقي طوّع الغربة في نسيج من القوة الروحية والفكرية، وظلت فكرة البلاد حاضرة وبلا ضجيج في اعماله التي تبدأ بالكتابة الأدبية بلغة بودلير ولا تنتهي بمحاضرات ومداخلات عن قضية الشعب العراقي في الجمعية الوطنية الفرنسية ( البرلمان) مرورا بجهد في التعريف بطغيان سلطة صدام في البرلمان الأوروبي والدفاع عن حقوق الأديب والمثقف في العراق من خلال صلات قوية مع اتحادات وروابط ادبية فرنسية واوروبية، ومع دأب عميق كهذا لم يكن غريبا ان يكون جبار ياسين بوصلة لمواقف كتاب وصحافيين فرنسيين كانوا يقومون بزيارات للعراق، ويطلبون من صاحب " سماء حالكة بالنجوم" ان يمهد لهم طرقا تعينهم على مهمة السفر الى عرين الطغيان .
عن عودته الى العراق من خلال زيارتين في العام الماضي وضع كتابا بعنوان عميق الدلالة هو " قبر من أجل شعب حي "، وعن كتابه هذا يقول في حوار صحافي " لقد رأيت مكاناً اعرفه لكن لم يبق من ملامحه شيء، وحينما رأيت النخيل على مشارف مدينة الرمادي لحظة اجتياز الفرات الازرق عرفت أنني في العراق، ارتبك كياني ، بعد ذلك كنت ارى خرائب وحطاما على الطريق، و كنت مشدوداً احاول ان استعيد صوراً بعيدة في طرق مررت بها شاباً . دخلنا بغداد من طرفها الجنوبي فلم اعرف ان كنت حقاً أمرّ على ارصفة وشوارع قطعتها مراراً وتكراراً في طفولتي وشبابي البعيد كل شيء قد تغير في المدينة التي كانت تحت غبار الحديد، لكن مع لحظة اجتياز "جسر الجمهورية" الأثير الى نفسي، عرفت أنني في بغداد. كان أمامي " نصب الحرية " لجواد سليم، لحظتها شهقت وبكيت لا أدري ان كنت ابكي من اجل الحرية المفقودة طوال 35 عاماً ام من أجل حرية مستعادة ".

في مكتبي بجريدة " بغداد" - صيف 2003
و ياسين الذي ترجمت اعماله العربية إلى اللغات الإنجليزية، الإسبانية، الإيطالية، الألمانية والفرنسية كان ضد جميع الحروب التي خاضها العراق، وكان على قائمة الذين تصدوا للحرب الأخيرة منسجما مع مواقف نظرائه الفرنسيين، وأسهم بالتظاهرات والبيانات الإعلامية الصحافية والتلفزيونية من أجل منع هذه الحرب، لكنه كان مختلفا عن ابناء لغة رامبو حين كان يضيف الى موقفه المضاد للحرب، موقف يدعو المجتمع الدولي للضغط على صدام حسين بالاستقالة ومغادرة البلاد لتجنيبها كارثة الحرب .
في ليلة الحرب شاهد صاحب " الترجمان" تحقيقا عن بغداد وكان يفكر ان "بعضا من المارة في شوارع المدينة سيموتون غدا وهو ما كان يرعبني".
وقعت الحرب وبحكم العادات الإعلامية السائدة في الغرب كانت قنوات التلفزة تتصل به كي يظهر على شاشاتها معلقا على مآسي اهل البلاد، وفي لحظة سقوط تمثال صدام في " ساحة الفردوس" كان ياسين في البرلمان الأوروبي يلقي كلمة يشرح فيها تاريخ بلاده التي علمت الانسانية الكتابة و الادب و العلوم، و" فيما اوشكت على نهاية خطابي ، سمعت صراخاً في القاعة يعلن ان تماثيل صدام تسقط في بغداد، كنت فرحاً بأن الحرب قد انتهت وكنت مرتبكاً لأن المستقبل بدأ يشرع ابوابه على الطريق المجهول وان آلاما اخرى ستبدأ، لأن بناء بلد بهذا الحجم من الخراب الذي أعرفه لم يكن سهلاً، في اليوم التالي وفي مؤتمر صحافي في باريس، أعلنت ان مهمة العراقيين الآن تتجسد بالعمل بصبر ودأب من اجل بناء وطن وإزاحة الاحتلال بأقل الخسائر".
حين خرج صاحب " ايها الطفل" من العراق، لم تكن ثقافته قد نضجت بعد، وكان عليه الدخول في صلب ثقافة اخرى وهو لم يتقن بعد مقومات ثقافته الأم . غير ان استجابته لتحد جاء في مستويين : الحياة في فرنسا والدخول بثقة الى ثقافتها، كانت من القوة بحيث حقق نجاحا مزدوجا، فاعانته روحيته العراقية على نضوج سريع في مقاربة الثقافة العربية، فيما تحديه للحياة وبشروطها الفرنسية جعله يقارب ثقافة فولتير بقوة وكي لاتصبح تلك الحياة فخا سقط فيه غير مثقف عراقي .
روحيته عراقية عربية ونضوجه الفكري والثقافي.. فرنسي، وحيال هذا التشابك الحميم وليس الإنقطاعي نشأ جبارياسين حاضرا بروحيته والتقاطاته " الشرقية" وضمن اطار فكري عميق يستند الى مرجعيات ثقافية فرنسية، مع انه يوضح هذا الإتصال " نحاول ان نكون مرايا لزمننا، زمن القرية العالمية، زمن الأرض الوطن كما يقول الفيلسوف الفرنسي ادغار موران الذي قدم كتابي الاخير "كلمات الطين" وهو بالفرنسية فيما ستصدر طبعته العربية بعد فترة".
وياسين الذي يحذر من آثار العزلة القسرية التي عاشها المثقفون العراقيون داخل الوطن ، وخلال اكثر من عقدين كانوا فيها شهداء وشهود محن الحروب والقمع والحصار، يلفت الى "ثقافة عراقية حقيقية في المنفى، وولد الكثير من أدبائنا في المنفى . هؤلاء خرجوا شباباً وتعلموا ثقافات البلدان المضيفة واعتقد انهم سيكونون جسوراً في المستقبل بيننا وبين ثقافات العالم، و تكفي نظرة على الصحافة العربية في الخارج، الثقافية منها بخاصة لتوضيح ان معظم كتابها ومحرريها هم من العراقيين. هذا شيء حسن ان يخرج العراقيون إلى العالم ليحتكوا بثقافات اخرى عن قرب، وعودة المثقفين العراقيين تبدو ضرورية اليوم إذا اخذنا بنظر الاعتبار العزلة المغلقة التي عاشتها الثقافة العراقية خلال ربع قرن، الثقافة لا تتعلق فقط بإنتاج ثقافي وإنما بسلوكيات ايضاً وقدرة على معرفة الآخر".
ويلفت جبارياسين الذي يلقاه مثقفون مصريون باحترام خاص في كل عام يكون فيه ضيفا على " معرض الكتاب الدولي في القاهرة" الى ان "ثقافة الآخر في العراق قد غابت، هناك ثقافة عراقية في الداخل لكنها غير منظمة وتفتقد إلى وسائل الاعلان عن نفسها، كما لاحظت ان المثقفين يعيشون عزلتين، العزلة التي تفرضها الامكانات المادية، والعزلة التي تفرضها الفوضى السائدة في العراق منذ وقت ليس بالقصير".
ووفاء للطفل العراقي الذي ظل صافيا فيه يقول جبار ياسين الذي كان عمل في غير مؤسسة ثقافية فرنسية واوروبية " سأكرس بضع سنوات في إعادة تأهيل ثقافي للعراق، حيث لدي خبرة بحكم عملي مستشارا ثقافيا لنحو15 عاماً، ولعل الحملة العالمية من أجل الكتاب في العراق هي خير تعبير عما اقوم به، إذ إن دعوتي من أجل إعادة تأهيل المكتبات العامة ومكتبات الجامعات في العراق، لقيت تجاوباً كبيراً و في فرنسا بخاصة، الكتاب ضروري لأية ثقافة وغياب الكتاب يجعل من العراق بلداً مهدداً وبؤرة توتر في الوقت ذاته".
* كتبت في العام 2003 اثر لقاء جمعني بالصديق القديم في بغداد.