عراقية من البصرة: اسمح لي ياوطني ان احقد عليك

تاريخ النشر       28/12/2009 06:00 AM


بغداد – علي عبد الأمير
عراقية من البصرة اسمها نوار فضلت ان تقرن اسمها بشخصية عشتار، الرمز المؤثر في تاريخ وادي الرافدين القديم، لتبث من خلال شبكة " انترنت" نوعا نادرا من المشاعر، لا لجهة كونه اقرب الى الإعتراف والبوح والمكاشفة مع الذات، وهذه مشاعر لايتداولها العراقيون عادة حتى مع التحول الضخم في حياتهم الآن، بل لجهة النضج الذي ميز ما كتبته نوّار( وهي طالبة جامعية )  في زاوية النظر الى مشاهد اجتماعية من تحولات العراق اليوم ما بين اتصال حر مع العالم ( الكتابة عبر الإنترنت) الى عمليات السلب والنهب ( ما تصفه عن سارقي فندق شيراتون البصرة) والضغوط المتزايدة على النساء غير المحجبات، وصولا الى قول تختلط فيه الجرأة بالوعي الحاد حين تقول : احقد عليك يا وطني .
هنا نقرأ بعضا مما تكتبه نوّار ( تدخلنا في تصحيح ما هو خطأ لغوي ووضعنا لكل مقطع عنوانا ) لنتعرف على رقة نادرة، روح منكسرة لكنها تشع جمالا، تعترف انها عاجزة عن مواجهة الأخطاء وترى ان عجزا يكبل محبي البلاد عن فعل شيء حقيقي، يقرب الإحساس ان البلاد ماضية الى خرابها.
 
شيراتون البصرة : نظرة الى فندق الأحلام وهو ينهب ويحترق
كلما مررت بالقرب منه علقت عيناي بنوافذه المفتوحة التي تطل على غرف وممرات طوابقه العليا، وما أمكنني رؤيته في تلك اللحظات السريعة على ما اعتقدت مخيلتي وجوده، جعل العلاقة بيني وبينه تكون حميمة بعض الشيء لدرجه أني قررت - في حال زواجي - قضاء عدة أيام فيه حتى لو خيروني وقتها بينه وبين القمر، وبالرغم من أن الموضوع اسهل من الأماني والتمني لكني ربما أتكلم عن قضاء بعض الأوقات المميزة مع شخص مميز . كان من الأماكن الجميلة القليلة والقليلة جدا في مدينة البصرة، بمساحته الكبيرة وواجهته الخشبية ذات التصميم الرائع وحدائقه المنسقة وقاعات الحفلات والمناسبات التي تميزت بتنظيمها هذا بالإضافة إلى كافتيرياته المختلفة المناخات والتي تكفي لمن يرتادها أن يتناول كوبا من "الكبتشينو" حتى يشعر بطعم الهدوء والمتعة يجتاحه كليا خصوصا وهو يراقب شط العرب الذي كان يواجهه تماما.
ألا انه وللأسف دمر بالأيدي البشرية كحال ملايين الأشياء التي لم تدمرها الآليات العسكرية.
عجبا، كيف امتلك البعض كل هذه الجرأة بحيث يمد يده لينهب ويسرق لا بل ويترك النار تأكله لعدة أيام، كثيرا ما اعتقدت أن من يقوم بمثل هذا فاقد للرزانة والقدرة على التفكير،  لا بل فاقد العقل أصلا ألا أنني عندما مررت قبل يومين فقط ورأيت مجموعة من الأشخاص لا زالوا يحاولون نزع بعض الأشياء من الجدران، والتي بالتأكيد ليست ذات أهمية وألا لكانت سرقت في وقتها، بكل تأن وهم يرتدون ملابس مخصصة للعمل طبعا - خوفا على تلف ملابسهم - علمت بأنهم ليسوا فاقدي العقل أو حتى الرزانة وانما هم متفقون على شرعية ما يقومون به ... عندها أطرقت رأسي حزنا وخجلا على الرغم من أن فندق الشيراتون ليس آخر ما دمر في العراق ولا أول ما دمر في نفسي.
 
ماذا يقدم المحبون  للعراق غير ضعفهم؟
وحين جاءَ أوان الورد
فكرتُ لو أني
خلعتُ جميع خواتمي
ولبستُ قميصي الأخضر الواسع
وقبعتي الريفية
ومضيتُ إليك
علك حين تراني تدركُ
أن حفيدَ ربيع رحيلكَ جاء وأصابعي لا زالت عارية
 
الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل والأسطورة عبد الحليم حافظ يغني " نعم يا حبيبي نعم …أيامي قبلك ندم وأيامي بعدك عدم"، وأنا أخربش بالورقة والقلم التي كانت بيدي الأبيات السابقة لشعر قديم كتبته قبل سنتين، لكني فكرت… لو كان في العراق (المحتاج فعلا للإرادة القوية) كثير مثلي يتعاملون مع عثرات واقعهم الخاص بهذه السلبية فسيكون على العراق الذي أريد له السلام بالتأكيد… السلام .
 
في السوق سمعت من  يقول : سنضرب الفتيات غير المحجبات
ولان احتياجاتي صارت كبيرة لدرجة أنها أصبحت تؤشر سلبا على مزاجي،  ذاك المسكين الذي لم يكن ينقصه مضايقة من هذا النوع، قررت أخيرا الذهاب للتسوق، مقللة خطورة الخروج بغير حجاب ( وخصوصا لمكان كالسوق مثلا ) بارتدائي وللمرة الأولى تنوره طويلة وعريضة .. عريضة جدا وقميصا لم يختلف كثيرا عن سابقته ( التنورة) ، الا باحتوائه على أكمام كانت هي الأخرى طويلة وعريضة فكان المنظر أشبه ما أكون مرتديه جلبابا طويلا، لا بل اضطررت وبالرغم من هذا الصيف اللهيب الحاقد الى وضع الحجاب على رأسي الذي كان قد قارب في هذا الوقت بالتحديد، على الانفجار .. ربما لشعوري المزعج بالاستلام لغير رغبتي، ولكن وعلى كل حال فهذا الوضع افضل مماكنت قد  تعرضت لمضايقة ما في حال خروجي دون حجاب، قد تكون ( المضايقة) وحسب ما وصفوها سكينا صغيرة آو لسانا طويلا، السوق كان مختلفا تماما عن السابق كغيره من الأشياء، فمحال الألبسة التي كانت راقية لا تفتح الان الا لإقناع سكان الكهوف للشراء من بضائعها خصوصا وقد صعب على أصحابها إزالة حتى الغبار الذي تراكم عليها، أسعارها المرتفعة مثيرة للسخرية لتناقضها مع سعر تصريف صديقها الدولار وخصوصا ان الاثنين كانا على نفس الوتيرة في الماضي، شارع ( أبو الأسود ) الشارع الرئيسي في السوق قد امتلآ تماما بالباعة الذين أعاقوا لكثرتهم مرور سيارات الأجرة الضرورية لمثل هذا المكان وباستثناء أكياس الحليب الباودر التي اختفت تماما من السوق، فالبضائع كانت متنوعة ومن مناشئ مختلفة، فأنواع الاجبان وعلب الخضار والفواكه كانت لا تعد ولا تحصى، علب اللحوم، عبوات البيبسي كولا مختلفة الأحجام كثيرة جدا في اغلب المحال وبينما آنا كذلك بدأت ألحظ تلاشى الخطر الذي وصفوه لي وقبل آن اندم على ارتدائي تلك الملابس المزعجة . سمعت أحد الشباب يخبر آخرا وقف جانبه عن محاولته ضرب الفتيات الغير محجبات، عندها فورا أحسست بحالة من الإزعاج والإحباط دفعتني لإنهاء مشروع التسوق هذا على الرغم انه وقتها لم يكن في يدي آلا عشرة أكياس من مسحوق حليب  Frutti : السويسري .
 

مشهد من البصرة العام 2004

كنت غريبة على طريق " الماجدات" !
لا زلت اذكر ذلك اليوم، كأنه كان بالأمس، لا بل واذكر طعم مرارته الغريب، حين اعترضني أحد أساتذة كليتي والذي اعتاد الوقوف أمام مدخل الكلية لمراقبة الطالبات بدلا من الإنشغال بالتدريس ، ليحاسبني بتهمة غريبة هي الأخرى وحسب ما وصفها بالحرف " ارتداء ملابس غالية الآثمان ، واظهار المفاتن " وامرني ان" أسير على طريق الماجدات  بترك الاهتمام بهذه الأمور والتوجه للحزب بالعقل والوقت والقلب"، وذكرني بنصائح" السيد الرئيس" بنسيان الذات والآخذ بمبدأ التكامل الاجتماعي لإزالة الفوارق الطبقية في المجتمع ! وقتها تمنيت لو استطعت إقناعه – ان من الممكن آن تكون كل ماجدة ، عراقية لاني لم اسمع يوما وبالطبع بماجدة تونسية آو مغربية ( ربما ذلك لأنهن لم يكن ماجدات ) لكن لا يعني بالضرورة ان تكون كل عراقية ماجدة – لان شرط المجد وحسب معادلتهم هو الانتماء والفعالية للحزب -  لكني بصراحة تراجعت احتراما لذاتي وبهذا أكون قد تجاوزت على نصيحة السيد الرئيس للمرة الثانية في صباح واحد ،  ولان السنين التي مرت لم تنسيني مرارة ذلك الموقف وتلك العقلية ، صارت تجتاحني رغبة كبيرة في ان اعرف مكان هذا الأستاذ الغير محترم الذي بالطبع لم يعد يقف على باب الكلية كالسابق لاحدثه هذه المرة أنا عن الماجدات وعن حزبهن، فالماجدة " مديرة إحدى الثانويات " الواسعة الصيت مطلوبة حية آو ميتة ، والماجدة " مديرة إحدى المدارس الابتدائية " التي كانت لا تملك الوقت لتدريس تلاميذها لانشغالها بواجبات حزبية نسائية اكثر أهمية يطلق عليها مشاهدة وتعني " مشاهدة عمليات الإعدام " و شوهدت مع نخبة من الماجدات في مديرية التربية تقدم  براءة من الحزب القائد ، فأي مجد في ذلك وآي ماجدة ؟ 
 
ايها العراق : عن كل الشروخ التي احدثتها في حياتي ، سأحقد عليك
بالرغم من كل الوقت الذي أضعته والجهد الذي بذلته، محاولة آن أخفيه، محاولة آن أغالط نفسي أتصيد الفرص لاثبات عكسه، ألا أن الوقت ملائم لاعلنه وقتا للمصارحة قد حان، بحضور ذلك اليأس الجبلي الذي اثقل نفسي المتعبة أساسا بإحاطات السنين لينتظرني آو بالأحرى ليجزأني اجزاء يصعب جمعها، سأعلن عما في داخلي الذي بات يغتصبني بشراسة صرت معها لا أملك الوقت بالتفكير حتى في لوم نفسي التي خنقتها وسأعترف بأني حاقدة عليك.
نعم آنا حاقدة لكل الشروخ التي أوجدتها في داخلي حاقدة بقدر ما عاناه شعبي، حاقدة بقدر سنين الحرب التي عشتها، حاقدة بقدر ما سمعته آذاني من أصوات القنابل والصواريخ، حاقدة بقدر الدمار الذي رأته عيناي، بقدر الدماء التي سالت، بقدر السنين التي ضاعت، بقدر افتقادي لمستقبل زاهر، حاقدة بقدر العراقيين الذين تغربوا، بقدر السياسيين الذين غيبوا، حاقدة بقدر معاناتي في ليالي صيف البصرة الرطب بدون ابسط وسائل التي يحتاجها الإنسان، حاقدة بقدر صعوبة أن أجد في مدينتي ثاني اكبر مدن العراق وسيلة ترفيه بسيطة، حاقدة بقدر كرهي لطريق كليتي الصحراوي الذي توسط المدينة، بقدر فقدان رغبتي بالحياة، بقدر حاجتي للحب الذي ضاع فيك ….
أنا حاقدة لكل ذلك يا موطني عليك، حاقدة ولكن يا كرهي ويا حبي آن لك  آن تفهم حقدي عليك، أن تمتص حقدي عليك حتى لا تجيبني حين أسألك ( مثل كل مرة ) عن طفولتي وشبابي لتقول أنها أشياء منسية وآلا فاسمح لي مجددا آن احقد عليك...
 
*نشرت في الحياة صيف العام 2003


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM