علي عبد الأمير حين تأسست الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية, في نهاية الاربعينيات, فهي كانت تؤشر لمنحى جدي آخر نقل الثقافة العراقية الطالعة من الرتابة والتقليدية الصارمة, الى آفاق تحديثية تواكب طبيعة التغييرات التي كانت قد دخلت في مفاصل عديدة من الحياة الاجتماعية والسياسية في العراق, وعلى الرغم من قلة عدد عازفيها من العراقيين والاستعانة بجهود الاجانب من الموسيقيين الهواة أو المحترفين الموجودين في العراق أو الزائرين, غير انها استطاعت تكوين مركز استقطاب لاجيال كثيرة من الموسيقيين كانوا يتخرجون من معهد الفنون الجميلة, كما استطاعت ان تبدأ في نشر الثقافة الموسيقية الرصينة والجادة وسط جمهور بدأ يتعرف شيئا فشيئا على نماذج تلك الثقافة الموسيقية والخروج من دائرة المؤثرات الشعبية الغنائية والموسيقية للتعرف على أساليب وأشكال موسيقية تتسع لتعبيرات انسانية عميقة. كما ان الفرقة في تاريخها الطويل, حاولت تقديم اعمال موسيقية عراقية كتبها موسيقيون عراقيون ضمن اسلوب الاوركسترا السيمفوني, لوضع لمسة محلية على ذلك الاسلوب والاستفادة من سمعته التعبيرية وتحقيقه لواحدة من ميزات العمل الموسيقي الرصين, فنحن نتذكر في هذا الصدد, اعمال حنا بطرس, فريد الله ويردي, جميل بشير, صلحي الوادي, عبد الامير الصراف, أغنس بشير, عبد الرزاق العزاوي, وجيل آخر من موسيقيين شباب كتبوا ضمن الشكل السيمفوني. وضمت الفرقة عازفين كبارا في مستوى اتقانهم لفنون العزف, فكان هناك : آرام باباخيان على آلة الكمان, أسعد محمد علي على آلة الفيولا, بياتريس أوهانسيان على آلة البيانو وباسم حنا بطرس على آلة الكونترباص, ثم ضمت لاحقا اسماء مبدعة في فنون العزف من جيل الموسيقيين الشباب أمثال علي حسين موسى ( التشيلو ), محمد عثمان صديق ( البيانو ) ثم المايسترو, علي خليل شوقي ( الكلارنيت ), كما استضافت عبر مواسمها الفنية عازفين وموسيقيين عراقيين كبارا امثال : غانم حداد على الكمان, سلمان شكر على العود, ولاحقا من جيل آخر : سلطان الخطيب وحسن المفتي على البيانو ونصير شمة على آلة العود.
كل هذه الخبرات والمعالم الفنية, ما لبثت ان تضاءلت وانعدمت امامها فرص التطوير الحقيقي نتيجة السياسات الثقافية والاعلامية الكارثية لأجهزة النظام وأبواق دعايته, التي لا تتعامل مع مؤسسة فنية عراقية كهذه بما تستحق, وكانت تلك الاجهزة تريدها ان تتحول الى طريقة تقديم الاغنيات الحماسية اثناء الحرب أو عزف تلك الاغنيات التي تمجد الطاغية وتتغنى ( ببطولاته الفذة ), ثم بدأت هذه الوقائع تغدو اكثر قسوة وبشاعة, مع امتداد سنوات الحصار وتدمير معالم الحياة العراقية والتي سببها النظام, فهاجر أغلب اعضاء الفرقة السيمفونية الوطنية الى خارج العراق بحثا عن فرصة عمل تمنحهم الاحساس بجدوى حياتهم التي شكّل الفن الموسيقي دعامة اساسية فيها, ومن بقي من اعضائها داخل العراق, راح يفتش عن فرصة عمل لا توازي المعنى الفني لموهبته الموسيقية, وفي احسن الاحوال يجد فرصة للعمل ضمن فرقة موسيقية تصاحب أحد مغني الموجة الهابطة السائدة في بغداد هذه الايام, والذهاب الى الملاهي والكازينوهات لتقديم فقرات غنائية وموسيقية. فها نحن نتابع نجاحات الفنان محمد عثمان صديق في قيادة أوركسترا المعهد الوطني الموسيقية ( مؤسسة نور الحسين في عمّان ), كذلك في تخريج وتدريب دفعة من الفنانين الشباب, الذين اتقنوا مهارات العزف على البيانو وبإشراف مباشر منه, كذلك أفضل عازفي الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية وخبراتها الى جانبه في الاوركسترا الاردنية أمثال : علي حسين موسى, باسم حنا بطرس, حسن حمد, شهلا غانم حداد وغيرهم, فيما نجد أسعد محمد علي وحسن المفتي وعازف البيانو الشاب ترافليان ساكو, يتعاونون مع مراكز موسيقية خاصة في العاصمة الاردنية, اضافة الى العازف المتمكن على الكمان قصي شبّر, وتتناهى الى سمعنا نجاحات الفنانين العراقيين امثال : عازف العود المبدع نصير شمة في تونس, عمر منير بشير في هنغاريا, فيما قضى الفنان الشاب سلطان الخطيب فترات عصيبة إذ تم اعتقاله في بغداد وأودع السجن بأمر مباشر من ( عدي ), وتضطر المجموعة الباقية من اعضاء الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية, للاستئذان من اصحاب الكازينوهات والاستوديوهات الغنائية الخاصة, للالتحاق بتدريبات الفرقة, التي تحاول اجهزة وزارة الاعلام ودائرتها الموسيقية, الايحاء بانها موجودة وفاعلة وتحظى بدعم ورعاية – راتب افضل عازف وصاحب اقدم خبرة فيها لا يساوي ما يعادل ثلاثة دولارات !! ان ملامح التردي الذي اصاب مسار هذه الفرقة الموسيقية الرائدة في انجازها وذات الخبرة الطويلة, لهو مشابه للتردي الذي اصاب عموم الحياة الثقافية العراقية الأمر الذي يؤشر معنى آخر من معاني الانتكاسة التي اصابت انساننا العراقي ومعالمه الثقافية والروحية.
*متابعة نشرت في صحيفة "بغداد" المعارضة الصادرة في لندن 30 آب 1996 |