حين تغلق صالات الأحلام
علي عبد الاميرعجام*
خلقت دور العرض السينمائية في بغداد تقاليد اجتماعية وثقافية ، بل كانت منذ اربعينيات القرن الماضي واحدا من المصادرالغنية للعراقي في معرفة الآخر، ونادرا ما تجد مواطنا متعلما ممن بلغ في اواخر القرن العشرين، العقد الرابع من عمره، لم تكن السينما شكلا من اشكال التسلية الراقية عنده. ودور العرض في بغداد تتعدد لا بحسب الامكنة وحسب ، بل بحسب الاذواق وبحسب الشكل السينمائي ، فلا يمكن ان تذكر " سينما غرناطة" في منطقة الباب الشرقي الا وتستعيد ذاكرة جمهور السينما في العراق مئات الافلام الاجنبية. كيف لي ان انسى هنا رقة اخي قاسم وقد عرّفني الى اجواء عروض هذه الدار؟ كيف لي ان انسى فيلم " غرباء حين نلتقي" او "غرباء عند اللقاء" كما في ترجمة الفيلم اثناء عرضه (الصورة) حين اخذني اليه، وكيف اشار الى ملمح في الفيلم كان علي لاحقا ان اعتبره اول درس لي في تذوق الصورة ودلالات البناء الدرامي، حين ربط بين قصة الحب المتنامية بين كيرك دوغلاس وكيم نوفاك في الفيلم، والبيت الذي كان يبنى طوال فترة العلاقة بينهما، في اشارة ذكية منه الى ان الحب في عمقه الوجداني والانساني هو بناء حقيقي وكيان يتحول الى حيز ملموس ومؤثر.
"غرباء عند اللقاء": اول قصة حب عرفتها على الشاشة في سينما غرناطة
وكيف لي ان انسى درسه التربوي حين اخذني العام 1968 الى الفيلم الذي احدث ضجة في العالم " الى استاذي مع التحية"، فمع سحر الممثل سدني بواتييه الاستاذ الذي قرر التصدي لتحسين سلوك طلبة مشاغبين بالتوازي مع اغناء قيم المعرفة والايثار والصداقة وحب الآخر، ومع غناء لولو الذي صارت واحدة من المغنيات البريطانيات الشهيرات، أمكنني ان اخرج من صالة السينما مكتظا بمشاعر أصيلة عن قدرة السلوك التربوي على تغيير البشر وافكارهم نحو اتجاه ايجابي يركز قيم الخير والسلام والتعاون. وفيما كنت قد تحصلت على قدرة شخصية في مواصلة المعرفة والثقافة بعد رسّخ فيّ أخي أسسا قوية وثابتة، ظلت " سينما غرناطة" محطة لخطاي منفردة تارة ومصحوبة باصدقاء وصديقات تارة اخرى، وفيها شاهدت افلاما فرنسية بارزة، لا سيما مع موجة افلام السينما الفرنسية التي غزت بغداد في سبعينيات القرن الماضي، كما في فيلمي " الموت حبا" و" الاغتيال" والاخير كان معالجة سينمائية مؤثرة عن اغتيال السياسي المغربي المهدي بن بركة في باريس العام 1965.
واذا كانت "سينما غرناطة" تخصصت بالافلام الاجنبية وتقاليد خاصة ليس اقلها عرض فيلم خاص لمرة واحدة في الساعة الواحدة بعد الظهر لاعلاقة له بالفيلم المعروض طوال اليوم، فان من نافسها على جودة عروض السينما العالمية كانت " سينما سميراميس" في عروض ما كان يعرف حينها " السينما التقدمية" بحسب تعبيرات عقد السبعينيات وتحديدا في افلام" زد"، "ساكو وفانزيتي" و"حالة حصار"، ومعها كانت تتحول تلك العروض الى منتديات ثقافية واجتماعية متحركة، فبامكانك مشاركة اي من الجمهور في نقاش حول الابعاد الفكرية والفنية للعروض، حيث الكثيرون كانوا جاءوا وهم يعرفون الى اين هم ذاهبون، في تطلع هادر الى المعرفة و الحرص على الاتصال مع كل ما كانت تلك العروض تثيره من ايحاءات ودلالات.
سميرأميس في العام 2004
أقل ما يمكن وصف جمهور تلك العروض بانه جمهور مثقف، جمهور متذوق. وعلى الرغم من تغير المزاج الثقافي والسياسي العراقي في ثمانينيات القرن الماضي الا ان " سمير أميس" حاولت البقاء ما امكنها حارسة لذوق رفيع في الفن السابع حين وفرت للمشاهدين فرصا نادرة لمتابعة افلام بارزة مثل " نادي القطن" لفرانسيس كوبولا، و" هانا. ك" لكوستا غافراس، و" المحصنون" لبرايان دي بالما. واذا كانت " سينما بابل" تخصصت باسابيع الافلام لدول المعسكر الاشتراكي السابق، فثمة اسبوع الفيلم السوفياتي والفيلم البولندي واليوغسلافي ، فان عرضا راقيا فيها كان من بين عروضها الاولى في العام 1975 حملني على اجنحة راقية من الجمال، وهو معالجة سينمائية حميمة لحياة المؤلف الموسيقي شتراوس. كما انني شاهدت غير مرة فيها فيلم " عودة الابن الضال" ليوسف شاهين وفيه عرف عراقيون كثر صوت ماجدة الرومي لاول مرة، مثلما تعرفت عبرها وغيري كثر من ابناء جيلي على فيلمين عربيين بارزين " المذنبون" و" أريد حلا" لمخرج واحد هو سعيد مرزوق.
سينما بابل...غبار "الواقع" اكثر صدقا من قوة "الاحلام"
الصمت والغبار يحيطان بالمكان الذي عرض فيه فيلم للمخرج البولوني الشهير أندريه فايدا ،الصمت الحجري القاتل هو ما انتهت اليه " سينما بابل".
وعلى بعد اقل من خمسين مترا من " سينما بابل" ثمة قلعة الافلام العربية أي " سينما النصر" التي تخصصت بجديد السينما المصرية بل ان مسرحها شهد في العام 1965 حفلة غنائية احياها الراحل عبد الحليم حافظ ، ولتكن الصالة ذاتها التي ضمت فيلمه الشهير " ابي فوق الشجرة" والذي استمر في عروض متواصلة زادت عن ستة شهور.
ومن النادران تصل دار سينما مستوى بحيث تمنح اسمها لشارع ، ولكن " سينما الخيام" فعلت ذلك فلا احد يعرف التسمية الرسمية للشارع الذي تشغله ، لكن عروضا من سينما " الاكشن" و" الويسترن" بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي منحت السينما تلك سطوة لاتدانيها سطوة، وكان فيلم " البؤساء" المأخوذ عن رواية فيكتور هيجو الشهيرة، هو الخطوة الاولى لي الى هذه السينما رفقة اخي قاسم الذي حرص، من خلال اصطحابي لمشاهدة الفيلم، ان يحبب الي فكرة الثورة على الظلم وحب الادب ايضا. في نيسان 2003، وبعد أيام على عودتي الى بغداد هالني المشهد الكئيب الذي انتهت اليه "صالات الاحلام" في بغداد، فاقترحت على الناقد السينمائي المعروف ابراهيم العريس الذي كان مسؤولا لصفحة " سينما" في صحيفة " الحياة" التي كنت اعمل مراسلا لها منذ العام 1998، ان اكتب عن حال دور السينما في بغداد. رحب الاستاذ العريس بالفكرة، وفضلا عن استذكارات لصالات السينما في ايام عزها كما اختبرتها، بدأت بسؤال: ولكن اي حال تعيشها "صالات الأحلام" هذه الايام ؟ وهل خرجت عروضها من حصار قضى عليها في السنوات التي اعقبت غزو الكويت ؟ اللافت ان الحصار الذي جاء على مقدرات الطبقة المتوسطة المنتج الاكبر للحياة الثقافية في العراق، كان قد اتى على قدرة السينما في جذب المشاهدين، كما ان حصارا داخيا بدأ بعد سقوط النظام السابق، فثمة تهديدات الاصوليين والمتشددين تنهال على اصحاب صالات السينما الذين فضلوا تشغيلا مربحا لايجلب المشاكل، فصاربعضها مخازن خشب وآخر مصانع احذية، فيما جاهد القليل كي يظل محافظا على تدافع الصور المضيئة في ظلام القاعات، ولكن بوجود "رجال حماية" يستشعرون خطر التهديدات الاصولية ويدفعونه قبل اقترابه . القليل هذا فضل عروضا ترضي جمهور قاع المدينة ، عروضا اقرب الى السينما الإباحية !

"سينما بغداد" في منطقة " علاوي الحلة"مغلقة، وحالها مشابهة لإغلب دور السينما في قلب بغداد القديم: شارع الرشيد الذي كان يضم عددا من دور السينما، ومنها "سينما الشعب" التي تحولت محالا بعد ان ايقن صاحب العمارة بان السينما لم تعد تدر ربحا وفيرا عليه كما كانت في السابق . وتحولت " سينما الوطني" الى "مسرح علاء الدين"وكان تخصص بالعروض الكوميدية والغجرية الراقصة قبل اكثر من عشر سنوات وتحولت مخازن خشب ومحلات نجارة اليوم . "سينما روكسي" التي كانت تجذب الناظر بتماثيلها الجميلة اعلى بنايتها وفي زوايا قاعتها، تحولت الى " مسرح وسينما النجاح"وماتزال ماكنيتها تدور ولكن اي مشاهد محب للسينما سيتراجع فورا وهو يرى الصور الفاضحة التي وضعت في جوانب الممر المؤدي الى الصالة ، والرواد اغلبهم من المراهقين او من العاطلين عن لذة عابرة عبر" ثلاثة افلام في ان واحد" . ومن شاهد فيلم " الفراشة" واستمتع بملحمة اداء ديستان هوفمان وستيف ماكوين سيحزن على حال سينما " النجوم " التي سبق لها ان منحت كثيرين شعورا بالجذل في نشيد روحي عميق بعد مشاهدته " تلك الكلمة الحلوة: الحرية" في منتصف سبعينيات القرن الماضي.

كما ان من ارتعش قلباهما ذات يوم وهما يتابعان سعاد حسني في " الحب الذي كان" او جرحهما يوسف شاهين في " العصفور" سيمران ونظرتهما منكسرة نحو "سينما النصر" التي ظلت الحياة متوقفة فيها عند آخر عرض من عروض " المسرح التجاري" .
*مقالة نشرت في جريدة "المدى" ايلول 2009 |