العرق 2000: رمضان في سنوات الألم والفاقة

تاريخ النشر       04/12/2009 06:00 AM


الناس يستعيدون ايام الخير تعويضا عن قسوة الراهن
 
عمّان –علي عبد الأمير
 في رمضان الذي صادف نهاية حرب الخليج الثانية في العام 1991 ، خيم شعور  ثقيل عند العراقيين ، عكّر من ايقاع نابض بالإيمان والمسرة ومعالم الخير والبركة التي لطالما ارتبطت عندهم بالشهر الفضيل ، فالحرب والحصار تركا ملامح الألم والشحة والتقتير . والمشهد ذاته ظل يتكرر طوال السنوات الأحدى عشر التالية ، فالموائد تعاني غياب " اطباق البذخ العراقي القديم " ، والنفوس خامدة، اثقلها التهديد المستمر بالموت ، واستعادة الأحبة الذين غيبتهم الحروب ، مع كل دعاء على فطور او سحور ومابينهما من صلوات وتراويح .
ملايين العراقيين الذين صاموا خلال سنوات الحصار والضيم ، كانوا يدعون بان يكون رمضان المقبل ، متصلا بمثيلاته من ايام الخير التي لايبدو في الأفق انها ستكون قريبة .
مع هذه الوقائع ، ومع التقتير مقابل البذخ ، ومع التوتر النفسي مقابل الراحة العميقة التي كانت سمة الناس في رمضان ماقبل الحصار ، وجد العراقيون وسائل خاصة ، وابتكروا اشكالا من الإحتفاء بشهر الإيمان ، تناسب وقائع حياتهم الثقيلة.
أحد البغداديين ممن عرف ملامح رمضان عبر سنوات طويلة  ، إذ ولد في بغداد القديمة وتعلم مع اقرانه معنى الصوم في (باب الشيخ )و(الصدرية)، وهو اليوم مستشار في "هيئة التاريخ" علاء الدين ،استعاد بعض ذكريات رمضان في بغداد:
"لرمضان اهمية خاصة عند العائلة العراقية التي تقوم  بتهيئة المنزل قبل مدة تسبق حلول رمضان، فتنظف المرأة بيتها وتزينه وتنظف الرز (العنبر) وتعزل عنه (الدكة) لعمل الحلاوة وتنظف العدس بكميات تكفي الشهر وتجهز التمر الذي لا غنى عنه في مائدة الافطار. و كنا نذهب الى  (سوق الشورجة)  لشراء البهارات والكزبرة والكمون  وتضاف هذه المواد الى الطعام لاضفاء نكهة خاصة عليه ، ويوضع البخور في كل ركن من اركان البيت للبركة" .
وفي هذه الأيام وحين تسأل عراقيا: هل اعددتم لشهر الصوم فيجيب مبتسماً " رمضان رزقه (وياه) معاه".
وفي رمضان يقبل الصائمون في العراق على اعمالهم دون تغيير عن باقي الأوقات  ،بل ان  البعض منهم يتساهل في عمليات البيع والشراء والمعاملات من اجل الثواب وكلهم حريصون على العودة الى بيوتهم في وقت مبكر، وعند المغرب تكاد تخلو الشوارع من الناس فالكل بانتظار مدفع الافطار.
وكان البغداديون خاصة والعراقيون عامة يذهبون  ( ايام زمان) وبعد اداء الصلوات والأدعية الى المقاهي ويلعبون لعبة (المحيبس) و (الصينية) ثم توزع صواني البقلاوة بينهم بعد انتهاء تلك الأشكال من الالعاب الشعبية التي مازالت موجودة حتى اليوم ، إلا ان التلفزيون وبحسب طائفة واسعة من المسلسلات والبرامج التي ينقلها من الفضائيات العربية  ،  سحب البساط من تحت ارجل اصحاب المقاهي ليجعل الناس يرابطون في بيوتهم لمشاهدة أحدث الأعمال الدرامية ،  في حين يقوم البعض الاخر بزيارة الاقارب والاهل والاصدقاء للتهنئة بالشهر الفضيل ولحضور جلسات السمر التي تمتد احيانا الى وقت السحور ، دون نسيان حلقات الأطفال الدائرين على البيوت ، مطلقين  في (الماجينة) نداءات رقيقة لطلب العون من طعام او شراب  يقدر عليه الموسورن ، كذلك  قارع الطبل ( المسحراتي ) .
في "جامع الخلفاء " وسط بغداد القديمة ،  يستعيد الشيخ جلال الحنفي البغدادي  الليالي الرمضانية في "مدينة السلام"، فيقول: " لدي خزين من الذكريات العابقة عن تلك الايام لاسيما وانا عمري الان 90 عاما.  يتجلى شهر رمضان في لياليه، فالليالي الرمضانية تعطي المعنى الاجتماعي لشهر رمضان. سابقا كانت بغداد غير مضاءة كما هو الحال بالوقت الحاضر، بينما عند قرب حلول شهر رمضان كانت تضاء المنارات، اذ كانوا يضعون حول المنارة السرج وهو على شكل كأس فيه ماء وبعض الزيت (وفتيلة) تبقى مشتعلة لحين انتهائها، فكانت هذه المنارات تضيء الطريق ويخرج الاطفال والناس الى الدرابين ( الأزقة)  يلعبون ويتسامرون، كما كانت السيارات قليلة سابقا والرجال كانوا بعد الفطور يذهبون للمقاهي يتسلون بالعاب معينة مثل (الطاولي) و(الدومينو) والمنقلة والدامة وغيرها، اذ كانت المقاهي تفتح من المغرب حتى الفجر وبعد صلاة العشاء وكانت محلات و(درابين) بغداد سابقا لها ابواب فكانت تغلق بعد صلاة العشاء.

على باب احد مساجد الخير في رمضان
 
وعن استقبال العوائل البغدادية لرمضان المبارك يقول الحنفي "كلنا يعلم ان الدنيا والحياة في تغير، فكان الجميع يصوم، وسكان الازقة والمحلات كانوا يعرفون بقدوم شهر رمضان من خلال باعة البقلاوة والزلابية اذ كانوا يتهيأون لرمضان قبل اسبوع من قدومه، فكان الباعة يجلسون في اول الحارة  ويبيعون البقلاوة والزلابية في (الصواني) وفي شهر رمضان فقط، حينها يعرف الناس ان (رمضان) قد جاء وهلّ ببركته ولياليه الجميلة. فكان الجميع نساء ورجالا واطفالا في وقت العصر وقبل المغرب يعملون في المطبخ هناك من يسلق واخر يقلي، وهكذا، وكانوا يتفنون بالاكلات لمائدة الافطار، والجميع كان يجلس حول المائدة يستأنسون ويتلذذون  حيث كبة الحلب وشوربة العدس او الماش والمحلبي والحلاوة وكباب عروق (وكلباستي) وهي ضلوع مشوية و(مخلمة) بالبيض واللحم والعصيدة وبقلاوة عرب وهي التمر المقلى بالدهن و(البراصة) وهي متكونة من البصل الاخضر واللحم والطماطة، وشربت قمر الدين، فهذه الاكلات كانت تؤكل فقط في شهر رمضان.. واما (التمن) أي الرز فكان يؤكل فقط في السحور و(السلاطات) كانوا يعملون منها انواعا وحسب نتاج الموسم".
و كان البغداديون في اوقات الأمان وازمنة العافية "يتسامرون ويحتسون الشاي او (الحامض ) والاطفال يلعبون في بعض الالعاب (كسمبيلة السمبيلة) ، والرجال يذهبون الى الجوامع لاداء صلاة التراويح ، وفي المقاهي كان يتسامر فيها  كبار السن فقط ، اما الشباب فكانوا يلعبون لعبة المحيبس والصينية وغيرهما، وهذه الالعاب قديما في بغداد كان يلعبها الشباب في (الدرابين) وليس في المقاهي مثلما هم حاليا. وفي بعض المقاهي يستمعون الى المقامات العراقية، فسابقا وقبل تأسيس الاذاعة لم يكن هناك تسجيلات واغان، وعند تأسيس الاذاعة عام 1936 بدأت تبث احاديث دينية وتمثيليات اضافة الى الالعاب التي تلعب في المقاهي. ووقت الفطور كان يضرب (الطوب) أي المدفع وفي السحور ايضا. وفي الجوامع كان هناك وعاظون صباحا وعصرا وبعض وعظهم فيها اشياء هزلية يستأنس الناس حين سماعها وبعض الاشياء الدينية التي يخشع الناس لها. وفي وقت السحور كان البعض يأكل في منتصف الليل والاخر ينتظر وقت السحور فكانوا يأكلون الرز لانه خفيف على الجسم مع اللبن " .
                 
في رمضان … يستقيم السلوك
وفي رمضان يستقيم بعض اصحاب المهن في بغداد ويقلعوا عن غش اعتادوه في عملهم طوال اشهر السنة الباقية . وعن " سلوك قويم " ينتاب بعض الحرفيين خلال رمضان ، نشرت صحيفة اسبوعية في بغداد ، تحقيقا طريفا  بعنوان "ونحن في شهر رمضان المبارك ماذا عن أخلاقيات المهنة؟"
أحد الأشخاص لايرسل تلفزيونه العاطل  الى التصليح الا في شهر رمضان  وسبب ذلك يقول  هو ان" الالتزام وعدم الكذب وعدم الغش يكون اكثر في هذه الأيام المباركة".و الصدق في رمضان  قد يغير سلوك غير الحرفيين ايضا ، فالطبيب عبد العظيم عبد الكريم ، يتمنى ذلك على زملائه حين قال ان "شهر رمضان المبارك، شهر  الالتزام والأخلاق والفضائل ومهنة الطب مقدسة وذات طابع أنساني ولكن للأسف لم نشاهد طبيبا علق لافته تقول (الفحص في رمضان مجاناً). فالكسب المادي افرز حالات في مهنتنا كانت بعيدة عن هذه المهنة السامية، و الالتزام هو الالتزام في رمضان ام غيره. صحيح ان البعض من الأطباء تحول بمرور الزمن إلى تاجر لكنني ادعو البعض من زملائي في هذه المهنة الإنسانية إلى استغلال شهر رمضان والعودة إلى أخلاق المهنة الإنسانية ".
وعن أخلاقيات المهنة في رمضان يقول أحد المدرسين الذي أصر على ذكر الحرفين الاولين من اسمه (ص. ب) " انا في رمضان لا استوفي أجورا عن محاضرات الدرس الخصوصي والسبب هو الالتزام الديني وحيث اني صائم فيجب ان أعطي لكل ذي حق حقه".
احد مصلحي ثلاجات حفظ الطعام  يرفض العمل في رمضان خوفا من وقوعه في المحظور (الكذب ) فيقول "انا لا الزم أي عمل في رمضان والسبب هو في حال ظهور عطل ما لا أستطيع الكذب وهذه مشكلة بالنسبة لي .في شهر رمضان لا بد من الصدق ، فقد  جائتني قبل قليل ربة منزل وعندها ثلاجة عاطلة واصلاحها لا يكلف اكثر من 12 الف دينار ، لكنني  في الأيام الاعتيادية اطلب لتصليحها30 الفا اما اليوم فأخذت الـ12 الفا وانا أتحسر على الباقي ".زملاء  هذا الحرفي يقولون ان صاحبهم ليس مثالا على سلوك شريف يأملوه في رمضان :" لو خليت قلبت،  فالحمد لله هناك من  يلتزم سنة الرسول محمد  (صلى الله عليه وسلم) بحديثه الشريف (من غشنا ليس منا) " .
سائق باص لنقل الركاب يتوقف في " الباب الشرقي " يشير الى ان" بعض السائقين يقوم بأخذ جزء من الوارد ويقوم باخفائه عن مالك السيارة ولكن هذا  لايحدث في رمضان ".
ورمضان باعث تقوى وورع حتى عند الحكومة ، فثمة  عمال من "امانة بغداد"  يعملون في إحد الشوارع بجد وهذا مفتقد في باقي الأيام.
 والشهر هو وقت الصدق عند  خياطة تقول"  يزيدني رمضان التزاما دقيقا بموعد تسليم الثياب  ولا يجوز لنا التأخير بالموعد لان ذلك  كذب ، والكذب معناه الإفطار وان نكون  صائمين بدون اجر وثواب" .
 
*نشرت في ملحق "مجتمع" بصحيفة "الحياة" 2000


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM