الاجيال الجديدة في بلاد الحصار الاقتصادي والعزلة السياسية 1991-2003 (8)

تاريخ النشر       04/12/2009 06:00 AM


شباب عراقيون عاشوا حروب بلادهم

عمّان –علي عبد الأمير
اجيال كاملة من العراقيين عاشت في حروب البلاد التي امتدت من الحرب المنظمة على الأكراد في العام 1975 وصولا الى " ام المهالك" كما يصف عراقيون شاركوا او عاشوا حرب الخليج الثانية في العام 1991 او " ام المعارك " بحسب التسمية الرسمية  ومرورا باطول حرب في التاريخ المعاصر ، الحرب العراقية – الإيرانية ( 1980-1988).
هاشم حسن الذي كان يبلغ الخامسة والعشرين من عمره يؤدي خدمة الإحتياط مع اللواء المدرع السادس والعشرين حين صدرت الأوامر للجيش العراقي باجتياح الأراضي الإيرانية في الثاني والعشرين من ايلول ( سبتمبر) 1980يلفت الى ان التعبئة النفسية والسياسية ضد ايران كانت وصلت اقصاها ، لذا جاءت الحرب " محصلة طبيعية " لحال هستيريا جعلت اغلب الذاهبين اليها يتوقعون انها ستكون " نزهة الجيش القوي" في اشارة الى ماوصل اليه الجيش العراقي من استعدادت .
هذه الصورة بدأت تتفكك مع الكيلومترات الأولى التي قطعتها ناقلات المشاة الآلية داخل الآراضي الإيرانية وفي " منطقة الشلامجة " تحديدا ، ويلفت حسن الى هذا الجانب " مع اول مجموعة من القتلى الإيرانيين حين عبرت قواتنا المخافر الحدودية شعرت ان الحرب مرعبة بحق ، هؤلاء بشر بلا حراك ، بل انهم قتلوا برصاص جيشنا ، فايقنت ان الأمر مختلف مع فكرة " النزهة " ، انه الموت . من هنا كانت الصدمة الأولى ، كانت المسافة القريبة التي نظرت منها الى القتلى اشبه بالوادي السحيق من الخوف والرعب . ارتعش جسدي وارتجفت روحي ".
هذا " الرعب " تحول لفرط الموت خلال الحرب ومعاركها المتواصلة الى " صورة معتادة" فيشير حسن الى انه بعد نحو عام  في معارك " نهر الكارون " كان يقوم مع بعض الجنود بحمل جثث القتلى الإيرانيين لوضعها مرتبة في صفوف تلتقطها كاميرات التلفزيون العراقي كمؤشر على " بسالة " الجيش وانتصاراته".
                  
                        جبن ومربى الى جانب اربعة قتلى !
الملازم المجند عبد الحميد الأعظمي كان يقضي ايامه الأولى في الحرب خلال معركة " مجنون" في شباط (فبراير) 1984، وبدا ان معارفه في كلية التربية التي انهى فيها تحصيله العلمي لايمكن ان تتصل بوحشية ماعرفه من نتائج الهجوم الإيراني الكاسح ، حين وجد زميله في " كلية الضباط الإحتياط " وابن مدينته ابراهيم علي جبر وقد مزقته شظايا قنبلة ايرانية " لم اتمكن من التماسك ، وظل جسدي يهتز بعنف ، اكتسح جسدي برد مخيف ، ايقنت انه برد الموت والإحساس به عن قرب " . بعد نحو عامين وفي معارك "الفاو " كان الأعظمي قد تمالك نفسه ازاء الحرب ومشاهدها ويقول " بعد انتظار يائس من نهاية للحرب ( اصبح عمره 26 عاما) ، تزوجت من خطيبتي التي انتظرتني كثيرا ، بل انني اعتدت الحرب ومشاهدها المرعبة منذ ان اجتزت غير عابيء مجموعة من جثث القلى الإيرانيين في منطقة " هور الحويزة " وهي تطفو على المياه لأصل الى حال كنت فيه اتناول فطوري بهدوء عجيب ( كان قطعا من جبنة كرافت الصفراء ومربى المشمش ) في ما حولي اربع جثث لثلاثة جنود ونائب ضابط من سريتي التي اقودها".
                   الكردي الشاب في جبال "قره داغ"
حروب العراق تعددت ومن هنا كانت الحكايات تأخذ اشكالا ومحاور عدة ، والعراقيون الأكراد الذي كانوا يقاتلون الجيش العراقي والقوات الكردية المتحالفة مع بغداد " الجحوش" ، كانت لهم رؤية اخرى ، فالعدو ليس كما هو عند باقي العراقيين ، عدو خارجي يحاول ان يغزو البلاد ، بل هو يحمل الجنسية ذاتها التي يحملها المقاومون " البيشمركه".
كمال عمر كان عاش تجربة القتال ضد الجيش العراقي في منطقة " قره داغ" القريبة من منطقة السليمانية " كنت في العشرين حين اقنتعت بان يمكن للأكراد ان يفرضوا على الحكم في بغداد عبر القوة العسكرية والقتال الشرس ، معادلة سياسية جديدة بحيث يتمكن الناس من ان يعيشوا بحرية وامان في كل مكان من كردستان ، وان لا ارى مقرات الحزب والإستخبارت والأمن في السليمانية وهي تتحول الى امكنة لاذلال الأكراد وتحطيم مشاعرهم الإنسانية ".

رعب في كردستان

تمكن عمر من الوصول الى الجبال المحيطة بمنطقة "قره داغ " التي شهدت " اولى شرارات الثورة الجديدة بعد انتكاسة ثورة البارزاني 1975 " ويلتحق مع " كومله" ( المقومة المسلحة) التي توسعت في الثمانينات لتنتشر في منطقة جبلية واسعة تمتد من السليمانية حتى " بهدينان " . وتعرف على عمل المجاميع " الثورية" التي حاولت في المناطق النائية الموحشة ان تقيم " مجتمعا بديلا قائما على روح التضامن والمحبة والوفاء " .
مقاتلو " كومله " كانوا يشنون هجمات متقطعة على " ربايا " الجيش وقوات " الجحوش" بحسب اسلوب حرب العصابات الذي يضمن ايقاع اكبر عدد من الإصابات في صفوف العدو وتقليلها ما امكن في صفوف المقاتلين .
استمرار الصراع وتفاوت اساليب ومواقع المواجهة لم يفت  في عضد المقاوم الشاب الذي ازداد صبرا واخذ من مقاتلين متمرسين وحكاياتهم ، ما جعله ينتظر معركة حقيقية مع العدو ، وهو ما حصل فعلا في العام 1987 حين قامت " الفرقة 57" من قوات " البيشمركه" بحملة لتطهير سلسلة جبال " كله زرده" من القوات العراقية وتحديا معركة السيطرة على " البرج" الذي كان يشرف على منطقة واسعة . المقاتل الشاب كان من بين الذي اطلقوا صواريخ الكاتيوشا على الربايا التي استسلم منها وقتل المئات ، بينا كان يتذكر من رفاقه " الشهداء" (كاميل ) و( وريا).
كمال عمر الذي كان مأخوذا ببطولة قائده ( كاك آزاد) عرف منذ يوم " انتصاره" في "معركة البرج" ان الحقائق على الأرض هي ليست متطابقة مع الفكرة الجامدة عن الرفيق او العدو ، وان " الإنتصار " الحلم باهظ التكاليف امام عدو كانت صورته غدت اكثر وحشية بعد فترة ، حين رد الجيش العراقي على عمليات المقاومة الكردية بعملية الإنتقام الشهيرة " الأنفال" ومعها صارت صورة الروابي والسهول الكردية الخضراء ، سوداء متحجرة ومرعبة لفرط مافيها من موت .
 
               نخيل " نهر جاسم" .. فحم اسود في الربيع
احمد الحلي ابن جيل " النحس" كما يسميه العراقيون ، الجيل المولود في عقد الخمسينات من القرن الماضي ، والذي كانت اغلب قتلى الجيش العراقي منه ، يرسم صورة " اليوم المروع" المحفور الى الآن في ذاكرته ، يوم من ايام معارك " نهر جاسم " في جنوب العراق خلال نيسان ( ابريل ) 1987 حين شن الإيرانيون هجوما كاسحا ليجد نفسه وهو الشاب القادم لإداء خدمة الإحتياط من مدينته " الحلة " والموهوم بمشاعر " مثالية " عن الحياة و تمجيد " العصامية " وسيلة لبناء مستقبل شخصي آمن ، تحت رحمة افق من نار حامية لاتتوقف " شن علينا الإيرانيون في تلك المنطقة المكتظة ببساتين النخيل التي كنا نراها جنة الله على ارضه ، هجوما كاسحا لم يبق ولم يذر ، صار الأفق كله بارودا ، كنا ندخل بالمئات لخط المواجهة لنصبح بعد فترة قليلة بالعشرات ، كنت وصلت الى نوع من المشاعر بحيث ماعاد غريبا معها ان ارى ايرانيين يطيرون كالقذائف نحونا ، موت كثير اسهمت في تعميقه بين صفوفنا ، نيران مدفعيتنا التي كانت تتوقع ان مواقعنا صارت تحت سيطرة الإيرانيين ، امطار و اوحال و قتلى رخيصون غير ان الخطر الماحق ذاك كان يستنفر في مثلما عند غيري ، قوى خفية اخرى بموازاة الخطر . لا ادري كيف خرجت من افق البارود والدم في "نهر جاسم " الذي صار في الذاكرة العراقية المعاصرة رمزا لموت رخيص للإنسان، وصار النخيل الجميل فحما اسود في ربيع نيساني ، وحين استعيد الآن تلك المعركة اشعر بوخز ما ترسب من بارود في رئتي . لقد تلوثت حياتي وليس من السهل ان اخرج من مدار وطن صار مختصرا في "حقول موت" لاتنتهي ".
      في ملتقى دجلة والفرات .. نار "الحرس الجمهوري" لاترحم
لم تضرب القوات العراقية مواطنيها في شمال الوطن وحسب ، بل هي كانت " عادلة " فضربت بقوة مضاعفة اولئك الذين " قالوا لا للهوان والذل الذي شعر بهما العراقيون خلال حرب الخليج الثانية " كما يقول المهندس الزراعي انور البدران الذي كان شهد معارك " الإنتفاضة الشعبية " في مدينته " كرمه علي " حيث يلتقي فيها نهرا دجلة والفرات ليصيرا " شط العرب" .
ويقول البدران " بعد الهزيمة المرة للجيش العراقي ، بدأت نذر الإنتقام من الحكم تتجمع في كل مدينة تمر بها بقايا الجيش المنكسر، ومن مدينتنا خرج عشرات من الشبان الذين كان من بين الجنود الفارين من خطوط القتال في الكويت ، واستولوا على مدرعات ورشاشات ثقيلة هاجموا بها مقرات الحزب والأمن ، وبسطوا سيطرتهم على المدينة التي لم تنتظر طويلا حتى جاءت دبابات الحري الجمهوري لتقصف ، بمطر من القذائف ، المدينة دون تحديد ، وليصبح المقاومون قلة كان البقاء في المدينة انتحارا ، فانسحبوا الى ضفة " شط العرب " ثم ليعبروا بزورق الى جزيرة صغيرة لم تحمهم اعشابها من انظار طائرات الهيلوكوبتر وصليات رشاشاتها ، ليقتل منهم اثنان وليعبروا تحت جنح الظلام الى الضفة الثانية وليقطعوا الطريق الى " التنومة" حيث كانت قوات " الإنتفاضة " تجمعت بعد انسحابها من مناطق البصرة وضواحيها".
في تلك المنطقة شهد البدران " معركة حقيقية" مع قوات عراقية حين تصدى مع عدد من المقاتلين لمدرعات برمائية كانت عبرت الشط ونزل منها الجنود بقيادة ضابط الذين فوجئوا بالنيران تدمر مدرعاتهم وليصبحوا " اسرى " . عن قتال عراقيين يقول البدران " كانت لحظة رهيبة ، هؤلاء من وطني ذاته ، لنا صفات مشتركة ، ويفترض ان لنا مشاعر ومصائر مشتركة ، هم يقاتلونا دون رحمة ونحن نرد عليهم . وفهمت بعد ان استسلم الجنود وبعد ان فضل قائد مجموعتنا عدم اطلاق النار عليهم ، ونظرات التوسل الينا ، ان ما نحن فيه وضع مرتبك وان صورتهم كأعداء التي كانت تعليها حماستنا غير دقيقة ، وان كانت دمويتهم حاضرة في كل مناطق البصرة التي صارت اشبه بالمقبرة ".

بعد حرب الخليج الثانية 1991: اسرى بيد الحلفاء ارحم من العيش مع صدام؟

البدران استفاد من ملابس الجنود الحكوميين الأسرى هو وعشرات من زملائه ليذهبوا باتجاه الشط بعد حصار دبابات الحرس الجمهوري لهم ، لعبر الضفة الثانية كونه جنديا من اهالى " التنومة" يريد الإلتحاق بوحدته العسكرية .
عرف البدران من بيت خاله ان السلطات تبحث عنه في منطقته ، فقرر البقاء طلبا لنوم لم يذقه منذ ايام وعلاجا لجروح قدميه اثناء اجتيازه ضفة النهر الممتلئة بنباتات قصب حاد ، بعدها " توجهت في خط لم اتلفت فيه الى الوراء الذي صار بالنسبة لي جحيما لااريد معرفة شيء عنه الى اطراف البصرة حيث القوات الأميركية واستسلمت لها".

* نشرت في ملحق "شباب" بصحيفة "الحياة" آواخر العام 2002


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM