حكايات عن صيف العراق

تاريخ النشر       04/12/2009 06:00 AM


حرارة آب " تحرق المسمار في الباب" و وسائل التبريد تتحول بدائية 
بغداد – علي عبد الأمير
تقسّم الحكاية الشعبية العراقية شهر آب ( اغسطس) الى عشريات ثلاث بحسب ارتفاع درجات الحرارة ، فالعشرة ( الأيام) الأولى من آب " تكثر الأرطاب ( التمور) وتقلل الأعناب" والثانية " تحرق المسمار في الباب" في اشارة الى شدة الحرارة وتأثيرها الذي يطاول حديد المسامير ، والثالثة " تفتح للشتا باب" في اشارة الى انخفاض واضح  في درجات الحرارة استعداد لفصل الشتاء الذي يبتعد في حقيقته كثيرا عن الأمنية التي تقدمها المخيلة الشعبية المكتوية بحرارة صيف يستغرق 6 شهور من سنة العراقيين.
وتقسيم المخيلة الشعبية للحرارة في شهر آب الى ثلاثة عشريات ، كان حين تناقلته الألسن متزامنا مع وسائل بدائية في التبريد قبل ان يدخل العراقيون عصر التقدم العلمي في ثلاثينات القرن الفائت ، واذا كان التقسيم يشير الى " بدائية" ما ، فان وسائل التبريد حاليا في العراق ولدى قطاع عريض من فقراء البلاد تتحول بدائية عبر " المهافيف" المصنوعة من سعف النخيل والتي باتت تسمى " سبلت الفقراء" في اشارة هي نكاية من اجهزة التكييف " سبلت يونت" التي يمتلكها الموسورون الذين لا يعانوا نتائج انقطاع التيار الكهربائي عبر امتلاكهم اجهزة توليد ضخمة للطاقة الكهربائية .
شواطىءالأنهار في العراق مكان مناسب ومجاني لمن يبحث عن نسمة باردة  وعن مياه  تبعد النفوس والأجساد عن " حرارة تحرق المسمار في الباب" ، وعلى امتداد تلك الشواطىء تنتشر الحكايات ، فمن براعة سباحين يقطعون الأنهار من ضفة الى اخرى مرات عدة ودون توقف الى غرق الصبيان الصغار الذي تغويهم شجاعة اقرانهم ممن يجيدون السباحة ، فيتبعونعم الى المناطق العميقة فيغرقون متبعوين بصرخات امهات ثكالى في الغروب ، ومن هذا المشهد يأتي مقطع متداول في الغناء الشعبي العراقي " مثل ام ولد غركان وبرا الشرايع" والشرايع هنا ضفاف الشواطىء التي تلازمها ام ولد غرق في النهر.

المسابح قليلة وان توفرت فهي نهب للفوضى واوضاع غير صحية
 
ومثلما كانت وسائل حماية الأولاد السابحين في العراق بدائية قبل نصف قرن ، وتتكون من " كربة" ( القطعة الأكبر في جريد النخيل) وتربط بحبال حول جسد السباح وتجعله طافيا على سطح الماء ، او من خلال علب حديدة كبيرة كعلب الزيت وتربط كما " الكربة " بحبال الى جسد السباح غير الماهر، او  انبوب مطاطي داخلي كالذي يستخدم في عجلات السيارات عبر نفخه بالهواء ومد السباح جسمه من استدارة الإنبوب الذي يرفعه بتأثير الهواء الى اعلى ، مثلما كانت تلك الوسائل مستخدمة قبل قرن ، عادت للإستخدام حاليا بعد ان عجزت اماكن السباحة " المعاصرة" والمتمثلة بالمسابح العامة التي بنتها الحكومة خلال العقود الأربعة الماضية ، وظلت بحكم عددها القليل ( نحو 8 مسابح في بغداد) عاجزة عن توفير اماكن " امينة " للسباحة على الرغم من الوفرة المائية التي يتمتع بها العراق .
" سوء التعامل مع المشاهد المائية " في العراق جعل الناس اكثر عرضة لحرارة صيف تصل الى نحو 50 درجة مئوية في النهار ، فبغداد وعلى الرغم من تمتعها بنهر دجلة الكبير الا انها تدير ظهرها لشواطىء النهر عدا مناطق صغيرة في " شارع ابي نؤاس" و" كورنيش الأعظمية" ، وكلا المنطقتين تعرضتا الى شبه اقفال في العشرين عاما الماضية ، فالأول كان يواجه " القصر الجمهوري" فاقفل بوصفه ضفة مطلة على دجلة باسلاك حديدية عالية منعت الناس من الوصول الى النهر ، فيما الثاني اقفل بدء تسعينات القرن الماضي مع انشاء قصر رئاسي جديد كان يطل على دجلة من جهة الأعظمية .
اللافت ان الموقعين حاليا مقفلان ايضا ، فحواجز الجيش الأميركي قطعت " ابي نؤاس" الى جزر منفصلة ، بينما الكثير من الحذر والخوف يغلف حركة الناس في " كورنيش الأعظمية" حيث قوات اميركية تتخذ من القصر الرئاسي موقعا! بينما " شارع المحيط" في الكاظمية ببغداد حكرا على فلل وقصور نخبة عراقية من اغنياء الحروب ومن موالي السلطة السابقة.
بساتين النخيل على دجلة غناء وتوفر فرصة راحة للناظر ، تقلل خضرة اشجارها من تأثير الحرارة في صيف بغداد ومدن عراقية ، غير انها هي الأخرى لنخبة من المالكين تجعل الناس غير قادرة على دخولها والإبتراد في نسيمها وتحت ظلال اشجارها ، فيما يكون السفر الى كردستان العراق بجبالها وينابيعها وخضرتها نوعا من الحل لدى عراقيي الوسط والجنوب الذي جربوا بدءا من الصيف الماضي السفر الى كردستان غير انهم عادوا بملاحظات غير مشجعة تبدأ من ارتفاع الأسعار في الفنادق والمنتجعات و لاتنتهي ب" مشاعر غير ودية " اظهرها اكراد تجاه "اخوتهم " من مناطق عراقية اخرى.
في صيف العراق يظهر مشهد " ضيوف اجانب" لم يعرفوا عيشا في حرارة كهذه ، ويسخر العراقيون من منظر جنود اميركان وبريطانيين وغيرهم وهم بكامل قيافتهم العسكرية داخل سياراتهم ومدرعاتهم ودباباتهم ، فيما يبدو منظر الجنود وهم يطلبون غفوة تحت ظلال تلك السيارات والدبابات ، محاولة عسيرة تشبه محاولتهم في صداقة مستحيلة مع العراقيين وظروف بلادهم .
العراقيون يتفننون في التصدي لحرارة صيفهم غير ان قرص الشمس في سمائهم يتقد لهبا ساخرا منهم ومحرقا اجسادهم من اجل تمور كثيرة تحتاج حرارة عالية للنضوج!
 
* نشرت في ملحق "مجتمع" بصحيفة "الحياة" 2004


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM