شباب عراقيون : من الجامعة الى الأرصفة او البقالة ان توفر الحظ
عمّان -علي عبد الأمير يختلف كثير من شباب العراق اليوم في قراءة متغيرات حادة في حياة مجتمعهم ، فهناك من يرى في توجه الشاب الى عمل لاعلاقة له بما كان درسه في الجامعة ،" تحولا عمليا ، فليس بالضرورة ان الدراسة تتوافق مع العمل " ، فيما يرى آخرون ان تحول الشاب الجامعي الى العمل بائعا للدخان والعلكة والملابس المستعملة على الأرصفة " احتقار للشهادة الجامعية "مستدلين في ذلك على ان "اميين كثيرون نجحوا في العمل على الأرصفة ، ولم تتطلب منهم الألفي دينار ( معدل الربح اليومي ) قضاء سنوات طويلة في الدراسة والجهد العقلي والمعرفي "، مؤكدين ان العمل بعيدا عن الشهادة الجامعية وفي ميادين لا تحتاج جهدا عقليا بات يؤكد مفاهيم " متدنية " ابرزها السخرية من العلم والمعرفة ، واقتران اسم صاحب الشهادة الجامعية بالمصير الخائب ، مما ولدّ انطباعا " حطيرا " عند اجيال من العراقيين اليوم مفاده ان لافائدة ترتجى من الدراسة اذا كانت ىخرتها الوقوف ساعات طويلة على الأرصفة لكسب الرزق.
عسكرة البلاد قلصت دور الشباب المتعلم في بناء البلاد
وهذا المتغير الحاد في حياة الشباب العراقي بدأ منذ العام 1980 حين اندلعت الحرب مع ايران ولم تعد الدولة ملزمة كما كانت بتعيين المتخرج من الجامعة في مجال اختصاصه العلمي . وفاقمت سنوات الحصار بعد حرب الخليج الثانية 1991 من " تنصل الدولة " ليصبح الشاب الجامعي بعد انهائه الخدمة العسكرية امام خيارات احلاها مر ، فاما العمل في القطاع الخاص المتعثر اصلا، او العمل في مؤسسات الدولة براتب قليل يصل في احسن الأحوال الى 30 الف دينار ( 15 دولارا) ، او العمل في الفضاء المفتوح ( الأرصفة ) او مع شيء من الحظ العمل في محل تجاري ، او البحث في طريق طويل من الخيبات اسمه الهجرة الى الخارج. قصّاب: لتنفع الشهادة الجامعية زملائي المساكين! ظاهرة العمل في ميادين بعيدة عن التخصص الدراسي والأكاديمي والتي تشهدها بغداد والمدن العراقية تلفت اليها صحيفة " الإتحاد الإسبوعية " : "على الرغم من أن الجميع يتفق على أن الظروف هي السبب في ترك البعض لمزاولة العمل باختصاصهم إلا أن البعض سببا أخر إلا وهو وراثة الابن لمهنة أبيه.. إذ يقول نجم عبد علي (35) عاما: تخرجت من كلية الإدارة والاقتصاد إلا أنني لم استطع البقاء والعمل في الدوائر التي تعينت فيها مما جعلني في النهاية أقرر العمل الذي كان يمارسه والدي (قصابا) وفي البداية لم أكن امتلك المال الكافي لافتتاح محل خاص بي فعملت سائق تاكسي حتى تحقق لي ما أريد وأنا الآن أفضل من الكثير من زملائي الذين تخرجوا معي إلا أنني مع ذلك أشعر بالحنين إلى اختصاصي وأتمنى لو أستطيع العمل به إلا أن نجاحي في عملي كـ (قصاب) يجعلني أرفض مبدأ العودة للاختصاص لأنه لن يوفر لي المال الذي أحصل عليه من مهنتي الحالية". وهناك من قرر ترك العمل ضمن اختصاصه كونه من الاختصاصات النادرة فهذا أحدهم رفض الإدلاء حتى باسمه يقول: "شعرت بالضيق من كل الذين عملت معهم لأنهم حاولوا تقييدي ومنعي من العمل ضمن اختصاصي الذي لا يفهومونه هم أصلا مما جعلني أعمل في النهاية في مكتب استنتاخ( تصوير طباعي ) بعيدا عن اختصاصي وعن كل شيء".
أما (أبو مصطفى) فيقول:" تخرجت من كلية الزراعة في عام 1991م بعد أن عشت اجمل سنوات العمر في الجامعة ولاسيما أن اختصاصنا يقدم العديد من التسهيلات الدراسية إلا أنني وبعد التخرج أصبت بمرارة الواقع إذ لم أستطيع بتاتا العمل ضمن الإختصاص الذي درسته.. وبالمصادفة وبينما كنت أتحدث مع بعض الأصدقاء عرض عليّ والد صديقي العمل معه (عطّارا) وبهذا أكون قريبا من اختصاصي(…) رفضت الفكرة في البداية إلا أنني تنازلت بعد ذلك وها أنا أمارس هذه المهنة وسعيد جدا بالعمل فيها على الرغم من رغبتي في امتلاك مزرعة وأدارتها إلا أن الحال لا يسمح بذلك". لغة لوركا في محل للبقالة ويعترف بعض الشباب الجامعي أن "سبب فشلهم في العمل ضمن اختصاصهم ، هو هروبهم السريع من الواقع وبعد أول تجربة يمرون بها". هذا ما يؤكده (أ.ن- بكالوريوس لغة أسبانية) إذ يقول: "اعترف أني لم أحاول كثيرا إذ هربت بعد أول اختبار قمت به لنفسي فبعد التخرج تقدمت بطلب تعيين في الجامعة وفوجئت بأنهم يضعون لي شروط القبول في الوظيفة ، وانه يمكن الاستغناء عني في أي لحظة. ساعتها لم استوعب هذه الشروط ولم أفكر حتى بخوض تجربة العمل أو إثبات كفايتي فقمت بالانسحاب لأعمل في النهاية "بقّالا" كما ترى أكثر ما يؤلمني شعوري بالحرج الشديد من مهنتي ولاسيما عندما ألتقي بأحد زملائي ايام دراستنا لغة الشاعر لوركا، علما أني كنت من الأوائل في دفعتي".
المصادر التاريخية لبيع علب الدخان! ويضيف جامعي آخر راح الى العمل في غير دراسته الجامعية " رغبته في العمل الحر هي ما جعلني اعمل بعيدا عن اختصاصي الدراسي " ويضيف (ج.م) :اعمل في بيع السجاير في "سوق الشورجة" ،علما أنني اعمل بهذه المهنة منذ كنت في المرحلة الأولى من دراستي الجامعية . في البداية كنت أعمل لكسب لقمة العيش فقط ولاسيما أني أتولى إعالة عائلة مؤلفة من (10) أفراد إلا أنني بعد ذلك اعتدت الأمر ،بل وأفضل العمل الحر بدلا من العمل بالشهادة ولا أشعر بالحرج من مزاولتي لهذه المهنة بل أنني أحبها بقدر حبي لاختصاصي (التاريخ) الذي درسته في الجامعة".
* نشرت في ملحق "شباب" بصحيفة "الحياة" 2002 |