الاجيال الجديدة في بلاد الحصار الاقتصادي والعزلة السياسية 1991-2003 (6)

تاريخ النشر       04/12/2009 06:00 AM


شبان في اسواق بغداد خلال الحصار: بضائع مسروقة للبيع ورسائل حب ايضا

عمّان –علي عبد الأمير
يكاد شبان عراقيون " ينحتون" في صخر وقائع الشظف والقسوة التي تهيمن على حياتهم اليومية ، من اجل تأمين القوت . وهم في محاولتهم هذه " يبتكرون " ما لا  يخطر على بال  او " المضحك المبكي " على حد وصف صحيفة " نبض الشباب " الإسبوعية الصادرة في بغداد .
واسواق العاصمة العراقية القديمة او التي ابتكرتها سنوات الحصار في العقد الفائت ، ظلت مسرحا لعمليات بيع وشراء تختلط فيه البضائع الحقيقية النادرة بتلك المزيفة أو الرديئة التي يجاهد شبان من مختلف الشرائح والمستويات الفكرية في الترويج لها .
واذا كان " سوق الهرج " في منطقة " الميدان " ، هو من الأسواق العتيدة في بغداد ، فان " سوق الحرامية " في منطقة " كسرة وعطش " هو من نتاج سنوات الحصار الأخيرة ، والتسمية تكاد توجز في حقيقتها ما استجد على حياة العراقيين حين اصبحت السرقة واقعا مألوفا ، وأصبح ل" الحرامية " سوقهم التي يبيعون فيها كل ماوقعت عليه اياديهم ، حتى ان العراقيين ينصحون من تعرض بيته او محل عمله الى السرقة في ان يذهب الى " سوق الحرامية " كي يعثر على ممتلكاته المسروقة .
 المؤلف والمخرج المسرحي عبد الحسين ماهود ينقل حكاية " الفخ" الذي نصبه له احد الشبان في " سوق الهرج " ففيما هو مار بالسوق ، حتى رأى شابا يعرض قمصلة( سترة ) جلدية للبيع فتساوما على سعرها حتى اتفقا على تسعة الاف دينار( 5 دولارات تقريبا). شرع ماهود بعدها فيما كان البائع يضع السترة في كيس و يحكم اغلاقه، واذ يتناول البائع المبلغ يخفّ في زحمة السوق فيما ماهود فرحا بصيده الذهبي يمشي مختالا نحو مقهى يرتادها بعض الادباء والفنانين، وفي جمع لهؤلاء يعلن  عن" فوزه الاولمبي" ، وحين يتعجب الاخرون  من السعر الزهيد للسترة الجلدية ، يفتح الكيس ليؤكد  ان ما رواه ليس مشهدا من مسرحية واقعية ينوي كتابتها ، يمد يده ويخرجها فاذا هي قابضة على مجموعة خرق نتنة عفنة ملتقطة من  كومة النفايات في السوق.وفيما كاد ماهود يبكي ضج الاخرون بالضحك.
 

احد اسواق بغداد العام 2000 (ارشيف خاص)
 
" سوق الحرامية "  في ضاحية " كسرة وعطش" في الشمال الشرقي لبغداد ، متخصص بقطع غيار السيارات المسروقة التي تتحول في غضون ساعات قليلة بعد سرقتها الى اجزاء يبحث عنها اصحاب سيارات معطلة مستعدون لدفع اثمانا باهظة  لقطع غيار نادرة . والسوق يشهد على هامش " نشاطه " عمليات بيع وشراء ليست بعيدة عن تخصص " الحرامية "
 وعالمهم "السري والغامض" فثمة رجل يجلس على الارض الترابية مباشرة ويضع امامه خرقة صفّ عليها حصى ملونا وغريب الشكل، وكان وحين يسأله احد عن معروضاته  عن حصاة غريبة فسيقول انها "خرزة للحب" وكي يغري السائل بشرائها ، يصف محاسنها:" ان حملتها في جيبك أو ربطتها على زندك فانك ستكون محط تهافت النساء، سيتجمعن حولك بلا عدد، أما اذا اردتها لواحدة "اشاحت وجههاعنك" فانها ستتعلق بك حد الموت وستتبعك ولو فررت منها إلى عويريج". و" عويريج " التي يتوقعها البائع ، من خلال اسمها الغريب ، قصية ونائية ، هي الضاحية الجنوبية لبغداد !
وعن حصاة اخرى يقول:"أما هذه فانها خرزة محاكم لو وضعتها في زند متهم يواجه عقوبة عن جريمة ودخل المحكمة فان براءته حتمية، هي خرزة تجعل القاضي قلبا وقالبا مع المتهم ولو كان قاتلا لعشيرة بكاملها".
وعن حصاة ثالثة "أما هذه الخرزة فهي مجلبة للرزق، ضعها في زندك وسترى كيف ينهمر عليك الرزق ".
بائع " الخرافات " في " سوق الحرامية " ليس بعيدا عن " بائع العواطف " في " ساحة الطيران" ، ذلك الشاب الذي جلس في ظل سياج في الساحة الشهيرة وسط بغداد، فارشا امامه قطعة قماش وضع فوقها اوراقا بيض رسم عليها قلوبا دامية وطيورا جريحة واورادا وازهارا تقطر دما، وجنب هذه الرسوم كتب بالخط العريض كلمات اغان معروفة أو قصائد لنزار قباني أو رسائل تقليدية مثل "صباح الخير ان كان صباحا ومساء الخير ان كان مساء، سلامي إلى العائلة فردا فردا …"
حول هذا الشاب يتحلق اخرون يشترون منه الورقة بمائة دينار بعد ان يهمسوا باذنه ان يخط لهم اسماء حبيباتهم على القصائد والغزليات. هذا الشاب بدأ يحض اصدقاءه على الإنغمار بهذه المهنة " كتابة رسائل الغرام " ، ولكن في مناطق بعيدة عن " مكان رزقه" ، مستفيدين من تصاعد الأمية بين شباب العراق وفتيته ، حين اضطر نحو مليون ونصف من طلبة العراق في مختلف المراحل الدراسية الى ترك فصولهم الدراسية للبحث عن فرص عمل تأمينا للقوت اليومي .
  في منطقة " الأورفلي " شديدة الفقر في شرق بغداد وبالقرب من " مستشفى  الشماعية" الخاصة بايواءالمجانين ، تنتشر اسواق ومصانع ( هي في حقيقتها بيوت سكنية) تعتمد على  اعادة تصنيع المقتنيات المنزلية . وفي هذه "الأسواق" تجد اكواما من نفايات البلاستك والألمنيوم والأقمشة والخشب والحديد بانتظار ان تتحول على يد مئات الشبان الى بضائع يطلق عليها العراقيون " بضائع معادة " أي معاد تصنيعها.
من هذا المكان العجيب تخرج ايضا انواع  غريبة من " المشروبات الغازية " والمعبأة بقناني " بيبسي كولا" ، ومجموعة الشبان التي تدير انتاج هذه المشروبات وتوزيعها تعرف تماما ان مايقدمونه"تصنيع بيوت الشماعية، قليل من نكهة البيبسي المزيفة زائدا صودا زائدا ماء ليس نظيفا زائدا اشياء اخرى مما لا يمكن قوله" على حد وصف " نبض الشباب " الصادرة عن " الإتحاد العام لشباب العراق " .
 
* نشرت في ملحق "شباب" بصحيفة "الحياة" 2001


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM