اكثر من نصف مليون مريض نفسيا ! عراقيون عاشوا ازمات الحروب والحصار فطحنتهم الالام الشخصية
عمّان –علي عبد الأمير من النادر ان يشهد مكان في عالمنا المعاصر تصاعدا في اعداد المصابين بالإحباط والقنوط والكآبة مثلما يشهده العراق اليوم ، وهو الذي ماانفك يطحن مواطنيه منذ نحو ربع قرن بالحروب ومشتقاتها من الحصار و"المواجهات المصيرية " . واذا كانت الحرب حدثا قد يمر به مجتمع من المجتمعات فانه في العراق ليس مجرد حدث بل "نمط حياة " طبع سلوك الناس من خمس اجيال على الأقل، كما يلفت الى ذلك عبد الجبار ناصر الذي قضى سنوات سود في سجون الأسر الإيرانية ، مازالت سحبها المظلمة تغلق عليه افق حياته ، على الرغم من كونه اصبح " مواطنا حرا " لدى دولة غربية متقدمة. فيض من الظواهر والأزمات عاشه العراقيون ، ما كان كافيا لجعل أي مواطن " مشروع ازمة نفسية " كما يعبر عن ذلك كاتب عراقي مقيم في عمّان عاش ازمة عميقة في بغداد بعد نهاية الحرب وتحولها الى " حدث داخلي يومي "، مشيرا الى ان " النتيجة الطبيعية لشعار مازال مرفوعا في شوارع بغداد وبكل فخر واعتزاز ، وهو شعار : العراقيون مشاريع استشهاد ، كانت تحول العراقيين الى مشاريع ازمات نفسية " . ومابين الزوجات اللواتي قضين سنوات طويلة من انتظار رجال غابوا ما بين جبهات القتال او المنافي ، والأبناء الذي كبروا على صور اباء معلقة على الجدران ، اجيال طحنتها ازمة البحث عن " لقمة شريفة " . الجميلة والشرس ومن بين الذي احالتهم الوقائع العراقية الى اهداف سهلة لأمراض الكآبة والإحباط ، المهندس باسل الذي كان شاهدا على مصيبة تعرضت لها زوجته ( ر) التي لم يكن لها ذنب سوى انها جميلة ،وعملت في دائرة رسمية صادف انها من مسؤولية قيادي عراقي عرف بفظاظته . الزوجة تلقت امرا من المسؤول " الشرس" بان تنقل الى وظيفة في مكتبه الخاص ، وعرفت من خلال ذلك ان الرجل يضمر لها نية لاتحيد عليها ، فاستشارت زوجها الذي اقترح عليها ، تقديم استقالتها . تنبه المسؤول الى ذلك ، فأرسل الزوج في دورة تدريبية الى فرنسا ، ليجد زوجته وقد طلقته بعد عودته ، وان لاأحد يستطيع ان يدله على مكانها ، وصار الرجل نهبا لرعب من طراز خاص ، فصور زوجته الجميلة وقد انتزعت منه تلاحقه ، وصورها وهي " وسيلة رخيصة " اصبحت كفيلة بان تطيح بالباقي من عقله . تحول ( باسل ) من مهندس شاب الى " مشرد " حقيقي ، يجوب شوارع بغداد يبحث عنه ذووه الذين جاءتهم الزوجة بشكل مفاجىء وهي على وشك ان تفقد عقلها بعد ان حولها المسؤول الى " امراة رخيصة " حين قضى حاجته منها وامر رجاله بتحويلها الى " شقة للدعارة" . التقى المهندس ( باسل) وزوجته الجميلة (ر) غير انه كان حطاما مثلما كانت زوجته شاحبة وذابلة ، والإثنان مازالا في بغداد اليوم عبئا رهيبا على العائلة التي لاتدري بمن تنشغل ، بالأبن الذي لايستطيع الخروج من ازمته ، ام بزوجته التي ينتابها الرعب كلما سمعت اسم المسؤول في الإذاعة او شاهدت صورته في التلفزيون وهو " يحض العراقيين على الوقوف بوجه الهجمة الإمبريالية الشرسة"؟.
كوابيس الأسير الأسير ، الحر الآن ، عبد الجبار ناصر يقول " طيلة الأعوام التي تلت خروجي من اقفاص الأسر وحتى هذه اللحظة ، مازلت اعاني من كآبة شديدة ومن كوابيس اراها كل ليلة ن تعيدني الى الوراء ، الى سنوات الأسر ، وكأني هناك انتظر عقوبة بدنية او اعاني من البرد الشديد و الجوع في زنزانات السجن الإنفرادي ، وحين استيقظ اشعر براحة عميقة لأنني الآن لست اسيرا". بات الأسير العراقي "مواطنا استراليا" محترما لاتحتقره المطارات العربية على عادتها مع مواطني جنسيته السابقة ، ولكن ذلك لم يخفف من الرعب المكرس في العقل والروح شيئا " مازلت حتى هذه اللحظة ، اجفل اذا ما ناداني احدهم وانا شارد الذهن ، اما اذا ايقظني احدهم بحركة من يده ، فاقفز مرعوبا ونبضات قلبي على اشد تسارعها ، وفي كل مرة احتاج الى وقت لأسترد انفاسي ". ويرسم ناصر الذي قضى في الأسر ثماني سنوات صورة قاتمة عن تأثيرات الأسر على حياته بعد ان اصبح حرا "لقد جعلتني سنوات الأسر اشعر بالغربية مع اولادي ، فقد تركتهم صغارا وحين عدت كانوا اشخاصا بالغين ، لا افهمهم ولايفهموني مما تسبب في حالات من سوء الفهم بيننا ، كذلك مع زوجتي ، لسنوات البعد الطويلة ".
سيء الحظ مع النساء … قتيلا في مدينة " الكوت" الى الجنوب الشرقي من بغداد ، كان سامي لعيبي شذر يعاني مرضا نفسيا لتكرار فشله الدراسي ، مما ادى الى تساقط شعره ، وذلك فاقم خيباته حين اصبح منظره طاردا للفتيات اللواتي كان يأمل منهن بنظرة تخرجه من حزنه وكآبته . وبدا الحدث الذي صادف وقوعه في ما كان شذر يقضي نزهته وحيدا في حديقة " ساحة تموز " بمدخل المدينة في العام 1992 ، " منقذا " له مثلما كان يقول لإصدقائه ، فقد انفجرت قنبلة امام بيت احد مسؤولي المدينة ، وبالقرب من الحديقة التي كان فيه المسكين يحاول الخروج من ازمته النفسية . القي القبض على سامي الذي اعتاد الجلوس في مكان قريب من بيوت المسؤولين ، وبعد فترة في الإعتقال ، اطلق والتغييرات الجسدية تكاد تغيب ملامحه الأصلية : اصبح ببشرة بيضاء في ما كانت سمراء بالأصل ، وكان يقول لأصدقائه ان المحققين في السجن حقنوه بعلاح بعد ان شكى الاما في صدره . لم يمض شهر على احاديثه لأصدقائه حتى جاء خبر وفاته وهو في فراشه نازفا من انفه . استاذ جامعي يرى انحطاط مكانته فيكتئب يكاد الإضطراب النفسي واضحا على سلوك استاذ جامعي عراقي وهو الذي كان الى حين يتمتع بمكانة اقتصادية واجتماعية فقدها بسبب انهيار التراتب الإجتماعي العراقي في سنوات الحصار ، وزادت مراحل الفرار من بغداد( حين كان السفرممنوعا على استاذ الجامعة ) وما تعرض اليه من مصائب في كردستان ثم سوريا وصولا الى الأردن من مشاعره المحبطة ، وتغيرت حتى ملامحه فبدا اكبر من عمره بكثير ( اواسط الثلاثينات) ، واصبحت سوداويته كفيلة باظهاره كهلا. وعن هذا التحول في التراتب الإجتماعي في العراق يقول استاذ البحوث النفسية في جامعة بغداد د.قاسم حسين صالح في لقاء مع احدى الفضائيات العربية "في قمة الهرم الإجتماعي في العراق كانت تتسيد أربع مهن، هي -على وجه التحديد- طبيب، عميد كلية، مهندس، أستاذ جامعي، تليه مهن أخرى، من بينها: رجل دين، كاتب أدبي.. وهكذا نزولا إلى المهن التي في المؤخرة وهي: الحمال، الكناس وما شاكل ذلك.
الباحث النفساني د. قاسم حسين صالح:المراتب الاعلى في المجتمع العراقي يحتلها الأميون
هنا المهن الأربعة الطبيب وعميد الكلية والمهندس والأستاذ الجامعي أخلت مواقعها إلى أربع مهن جديدة هي على وجه التحديد أيضا تاجر، مقاول، صائغ، ميكانيكي سيارات. وتراجعت أيضا مهنة الكاتب الأدبي ورجل الدين، ولو دققنا النظر لوجدنا أن المهن التي صعدت إلى قمة الهرم والقريبة من قمة الهرم أيضا هي مهن لا تعتمد على العلم ولا تعتمد على الثقافة. والأستاذ الجامعي الذي كان يحتل المرتبة الرابعة في هرم المكانات الاجتماعية تراجع إلى المرتبة 25 ، وتقدم عليه مصلح الراديو والتلفزيون!! وأن الحمال الذي يحتل آخر مرتبة في سلم المكانات الاجتماعية تقدم على معلم في المدرسة الابتدائية في هرم المكانات ، هذه خلخلة كبيرة، يعنى الهرم.. أصبح مقلوبا". هذا التراجع في المكانة تراكم عزلة تتحول احيانا الى غضب ونظرة لاتخلو من ريبة الى الآخرين عند الأستاذ الجامعي الذي لم يوفر " المفوضية السامية لشؤون اللاجشين " في عمّان من اتهامها "بترتيب موقف ضده، كونها لك تبت في قضية قبوله لاجئا " . ويعلق الخبير بالبحوث النفسية على ظواهر جماعية عاشها العراقيون وانتجت اضطرابات نفسية قائلا" أجريت دراسة عراقية وهي في الواقع دراسة ماجستير موضحة ما يأتي: أن الأسرى العائدين يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية، 85 بالمائة منهم يعانون من الاضطرابات الآتية: كآبة، انفصام، ذهال، قلق نفسي، الإجهاد ما بعد الشدة، جاءوا محملين بهذه الاضطرابات لا ليجدوا ما يريحهم نفسيا، إنما ليجدوا واقع ضغوط أخرى، ضغوط اقتصادية وضغوط نفسية. وثمة دراسة أخرى أجريت في عام 94 أيضا وجدت أن 70بالمائة من الأسرى العائدين في زمن الحصار، والذين كانوا متزوجين قبل الأسر، هؤلاء إما طلقوا زوجاتهم، وإما انفصلوا عنهن، وإما عاشوا معهن على غير وفاق ، إضافة إلى ذلك أن الأسرة تختل الأدوار فيها، لأن هذا الأب أو الأخ الذي كان غائبا، دوره أخذته امرأة أو شخص آخر". وحين يحيل الخبير صالح محدثه الى لغة الأرقام فان المشهد العراقي لجهة الأمراض النفسية ينطوي على كارثة مؤكدة لاسيما ان الرقم الذي يشير اليه كان في العام 1998 ، وهو مايعني زيادة مؤكدة حاليا "أعداد الناس الذي يبحثون عن العلاج من الأمراض النفسية والعقلية في العراق قفز من 200 ألف في عام 1990 إلى 510 آلاف عام 1998".
* نشرت في صحيفة "الحياة" 2002 |