سيف الرحبي: اطلالة على نهر النيل 2003 (كاميرا علي عبد الأمير)
من هنا جاء اطمئناني له، فهي اشارات تدل على نقاء سريرة وصدق روحي وانسجام مع النفس والذكريات والوفاء لها، انه كان في غمرة "المهرجان" يدفع بالحفاوة الرسمية جانبا ويختار ان يسمع مني حكايات انكساراتي الروحية في الحرب التي عشتها قذيفة قذيفة وقتيلا قتيلا وشهقة وشهقة..كانت سهرة لاحقة اعقبت تلك الجلسة الشعرية العميقة الروح والفكر، جلسة ضمتني الى الرحبي والمصباحي الذي راح يستمع الي منصتا وانا اتحدث عن انسجامي مع حياتي وان كانت انتزاع نبضة وحيدة لقلب على وشك الفناء في رماد الحروب.
2 في عمّان..ونسيم صيفي منعش
سافر الرحبي وترك لي ديوانه المزدوج المتضمن مجموعتي "مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور"، "رأس المسافر" وتلويحة من محبة كنت امينا لها حين كتبت عن ديوانه اياه مقالة مطولة ظلت في ارشيفي نابضة حتى قدمتها اليه في عمّان حين التقيته على هامش مهرجان جرش العام 1995.
في لغة مرجعها تجربة شخصية يكتب الرحبي وسط سؤال عن قدرة الفرد على رؤية مركزة لعالم يتشظى، وسؤال آخر عن قدرته على تحرير لغته من الاستعمال العام والوصول بها الى مشارف شخصية. انه يندرج في المغايرة معولا على رؤاه، فحين يخبرك عن الذين "جاءوا من البيت المجاور لاحلامك باحثين عن صدر أكثر رأفة من المعرفة"، يأخذك الى مكان على حدة لكنه ليس بالمكان النائي.
كتابته أقرب الى سيرة تسرد حكمتها في إلتماعات، فنصه يستقيم في توتر المعنى، انه لا يتوقف عن ايقاد فكرة التنديد بالانهيارات، والنص مكتوب عنده بدأب شخصي فيه الحنين، والمكاشفة الرقيقة،مقابل وقائع تسرد بؤسها دائما .انه حين يرثي الأزمنة فهو يعتمد على روح تنفض رمادها لتطلع لجروح قادمة، ولا فرصة ولا طريق للنفاذ الا: "في الانفاق السحيقة للألم الإنساني".
كانت ليلة صيف منعشة النسيم في عمّان حين جمعتني الى الرحبي، احتفى بي وانا اقرب الى المنفي "المنبوذ": ألم اكن ذلك المعارض لنظام القسوة والعنف في بغداد؟ وأحب مقالتي الناقدة بقوة للشعر السائد في جرش تلك الدورة وان كان هو من المشاركين فيها، ونشرها في "نزوى"، ثم التقيته مرة اخرى في عمّان 1998 وآزرني حين قدمت ورقتي النقدية عن المنفى في تجربة شعراء جيلي"شعر جيل الثمانينات في العراق"رغم جلبة وضوضاء برع في اصطناعهما مجموعة من مثقفين غلاظ العقل والقلوب في محاولة لاسكاتي.
انه "رجل من الربع الخالي" يعود الى مكانه الاول بعد خبرات مكتسبة من المعيوش في الهجرات. انه من مكان يجرحنا بوحشته، ويدهشنا للسحر الخفي الذي تتركه الأفعال الإنسانية في مساربه، وتشتاق للدخول في تفاصيله حلما جميلا بإمكانه هدهدة الفزع في النفس التي اثخنت بجراح وقسوة الهجرة، وعناءات تنشط في كل اتجاه.
انه قدّ من "جبال" لجهة صلابته في تفنيد سطوة المكان حيث تحطمت على ملامحه الجرداء هواجس الحلم وبواعثه الاساسية، يفتت المكان وحجارة جباله، ليغدو الغياب ممرا الى اشتعالات ومشاعر يأس وغضب ايضا. ويغدو فعلا انسانيا معادلا لسطوة المكان وحضوره الضاغط "لقد ذهبوا بعيدا صوب أنفسهم - وذهبوا في الوحشة".
سيف الرحبي: حوار طويل لم ينشر ضاع مع اغتيال اخي قاسم (كاميرا علي عبد الامير)
3 صديق ليس عابرا في القاهرة
في اوائل العام 2003 التقيت الرحبي في القاهرة على هامش مهرجانها الدولي للكتاب، ومعه قضيت ساعات طويلة كانت مخصصة لحوار مبتكر، تمشينا طويلا على كورنيش النيل واستغرقنا في حديث يبدأ من الشعر لجهة كونه سؤالا في المصير الانساني ولم تكن نهايته في المنفى الواسع الذي بات يختصر العالم مرورا بمحطات جوهرية. لم انشر الحوار المطول الذي دونته لاحقا في عمّان، اخبرته بانني سأنشرالحوار في بغداد "التي ستستعيد حريتها قريبا" فابتسم بطريقة اقرب الى التهكم. كنت احمقا في تفاؤلي الصريح وهو كان دقيقا في شكوكه الغامضة. اودعت الحوار الى اخي ومعلمي قاسم عبد الامير عجام بعد ان تسلم منصب مدير الشؤون الثقافية كي ينشره في مجلة"الاقلام" الصادرة عن الدار، ومثلما اغتيل العراق النقي باغتيال اخي، اغتيل حواري مع الرحبي وظلت في أوراقي بعض الاشارات المدونة ومجموعة من الصور الفوتوغرافية التي التقطتها له في شرفة فندقه المطلة على النيل. هنا رش دم كثير على تفاؤلي بحرية العراق، فيما ظلت ابتسامة الرحبي الساخرة ظلت ترسم ملامح المشهد الدموي الذي آلت اليه احلامي بالحرية.
هنا في "مدونة الحب" هذه..رسالة اعتذار للرحبي عن حوار بيننا لم ينشر حين اطلق عليه الرصاص في فجرعراقي موحش.
*مقالة نشرت في موقع كيكا واعادت نشرها مواقع ثقافية عربية وعراقية