كتب: علي عبد الامير
الاغنية تلك التركيبة من الكلام المؤثر واللحن والموسيقى وجمال الاداء الصوتي ظلت لفترة طويلة متداولة في سبيل ضيق الا وهو تصوير العاطفة، وبالتالي ربط الاغنيات بالعشاق.
هذه الصورة للاغنية تبدلت (الاغنية القادمة من الغرب تحديداً)، فبدأ التضمين الاجتماعي في بنائها يتضح شيئاً فشيئاً وهناك من يراها بمدلولات اجتماعية -ثقافية، قد تكون الجملة التي قالها المفكر البريطاني برتراند راسل: "اعط السلام فرصة" والتي اعتبرت اعتراضاً على الحرب الاميركية في فيتنام، محرضاً جمالياً للفريق الغنائي (البيتلز) والذي اخذ العبارة ليدخلها احدى اغنياته، ولتصبح هذه المقاربة، بداية لدخول المضمون الاجتماعي المتقدم في الاغنية ودون الاخلال بشرطها الابداعي، ومن ثم بداية عصر غنائي جديد ليس بالضرورة ان يكون المجد فيه معقوداً للعشاق وآهاتهم.
الاغنية في مواجهة الصخب الاجتماعي
ورسمت ملامح اغنية الروك في السبعينات الواناً من المواجهات النقدية ما بين الشعراء والمغنين والظواهر الاجتماعية التي اظهرت الاجيال الشابة "اغتراباً شديداً" نحوها، وقد لا يتسع الحيز هنا للتذكير بنماذج من الاغنيات التي حملت مضامين الاغتراب النفسي والاجتماعي في بلدان الغرب المتقدمة، غير ان تجربة كتجربة فريق الروك الشهير "بنك فلويد" لا بد من التذكير بها، فهي تضمنت اغنيات تعبيرية عميقة، صورت غربة الانسان في المجتمعات الغربية المعاصرة، وما تزال اغنيات الفيلم الرؤيوي "الجدار –1980" الذي اخرجه آلان باركر اعتماداً على موسيقى الفريق وافكاره، ماتزال تقدم لنا نشيداً شاملاً عن التركيبة المعقدة لجيل ما بعد الحرب "ممثلاً بطفل يفقد والده في الحرب".
جيل وجد نفسه وسط فوضى اجتماعية تجعله يتأرجح بين يقين انساني وثوابت اجتماعية تأخذ منه كل شيء حتى الذكريات فتجعله يقترب من حدود الجنون، ومع تلك العوالم كم تبدو "السماوات الزرق" مستحيلة في الحروب، وكم بدت الاغنيات دقيقة في رؤاها، اذ توقعت للجدران ان تتهدم.
كما ان اغنية بعنوان "فتى المدينة الصغير" التي اصدرها الفريق الغنائي الانجليزي "برونسكي بيت" عام 1985 شكلت اكثر من مقاربة لمضمون الاغتراب الاجتماعي في الاغنية، فهي ترسم صورة لفتى يترك قيوده الاجتماعية في العائلة والمدينة الصغيرة ليواجه مجتمع المدن الكبرى فيكاد في حصاراته ان يصل لحدود اليأس فيأتيه نداء يحثه على الخلاص بالهروب ولكن الى اين؟ لا يدري… فالفوضى حلت في كل شيء…
الاغنية في صحراء الجوع…
من مواجهة الازمة الاجتماعية الى نوع آخر من المواجهة، ذلك ما تقوم به الاغنية حتى تحاول التذكير بمآسي البشر جراء الكوارث الطبيعية والجوع في افريقيا.
لايف ايد في ملعب ويمبلي بلندن 1985: الغناء لنصرة ضحايا الجوع
ففي صيف عام 1985 استطاع تجمع لاغلب مغني ومغنيات العالم المعاصر ان يكون على جانبي الاطلسي وفي وقت واحد: في لندن بانجلترا وفي فيلادلفيا بالولايات المتحدة، وعلى امتداد 16 ساعة متواصلة تصاعدت الاغنيات، في حدث اعتبر حدث القرن الغنائي، ومن اجل مهمة محددة الا وهي جمع اموال كثيرة للتخفيف من معاناة الجوع الافريقي، وحمل الحدث اسم "لايف ايد".
وهكذا استطاعت "يوتوبيا" التعاطف التي اطلقها المغني الايرلندي بوب غليدوف ان تجمع كل الاسماء المعروفة في الغناء المعاصر ومن اجل مهمة بدت غير غنائية، مهمة نجحت في توفير مئات الملايين من الدولارات شكلت جسراً من المعونات الطارئة لضحايا المجاعة في افريقيا.
لايف ايد فيلادلفيا باميركا: الحدث ذاته ولكن عبر الضفة الثانية من المحيط الاطلسي
الاغنية تقرع اجراس الحرية…
المغني (ستنغ)، الفريق الغنائي (يوتو)، المغني بيتر غبريال، المغنية تريسي تشابمان، هؤلاء استطاعوا ان يقموا اواخر الثمانينات بجولة غنائية اخذتهم الى غير عاصمة غربية، وانتظمت حفلاتهم تحت يافطة التذكير بحقوق الانسان، واستطاعت اغنياتهم ان تقرع اجراس الحرية في نشيد متصل، فالغناء لا يجد حقيقته الاولى الا مع الحرية، وهكذا تتعمق الصفة الانسانية العميقة في فن بدا لوهلة ليس الا ايقاعات راقصة لشباب يلهو…
والمكان ذاته الذي شهد الغناء من اجل ضحايا الجوع: "ملعب ويمبلي" شهد عام 1989 تجمعاً غنائياً ضخماً، من اجل التذكير بضوء شمعة نيلسون مانديلا للاحتفال بعيد ميلاده السبعين وهو في السجن، وكانت التظاهرة واحدة من التغييرات العميقة التي طالت مفهوم الاغنية في عصرنا، والتي ابعدتها عن مجرد كونها وسيلة للتسلية العابرة.
اهل الغناء المعاصر: لا نعتقد ان حضارة كهذه هي انسانية بحق و وجدت دعوات العناية بالبيئة والدفاع عن "رئة نظيفة يتنفس بها كوكبنا الارضي" كذلك دعوات حقوق الانسان والتذكير بمصائر المنسيين من المدافعين عنها، قبولاً من اهل الفن والغناء المعاصر تحديداً، فعن المخاطر التي تحيق ببيئة الانسان المعاصر يقول المغني المعروف بول ماكرتني: "انه مكاننا الذي نحيا فيه، وحين لا نرعاه كفاية فقد لا نبقى هنا فترة اطول".
وتقول المغنية آني لينوكس: "من اجل ان تنعم بعض السيدات بأناقة الفرو او جلد الدولفين، هناك العديد من صور الحياة الجميلة تطمر والى الابد".
وتضيف المغنية الشابة وندي جيمس: "حضارتنا تسبب ايذاء للطبيعة بأكثر من 25 مرة مما يحصل لها في بلدان خارج حضارتنا، لا اعتقد ان حضارة كهذه هي انسانية بحق".
الاغنيات لا تغير وجهة السبيل الذي تمضي فيه الحضارة بالطبع، ولكنها استطاعت ان تنبه لموضوعات قد يعتقد البعض انها ليست بمهمة الاغنية، الاغنيات لا تبعد الكارثة ولكنها تستطيع لوهلة ان تكون نذيراً ودليلاً على تلك الكارثة، ومرة اخرى تصح الجملة التي تقول: الاغنية هي احدى مؤشرات الوعي للفترة الاجتماعية التي تنتجها.
*مقالة نشرت في صحيفة "الرأي" 20/6/1997
|