ياني: تجربة موسيقية في الثناء على بناة الحضارات الشرقية

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       30/11/2009 06:00 AM


يقول الموسيقار اليوناني الاصل ياني، في تقديمه للعمل الجديد "ثناء"، انه اذ يقدم موسيقاه وعبر طريقة العرض الواسع في الارجاء المفتوحة، وهذه المرة بين مكانين يختصران جهدا انسانيا بارعا، هما: "تاج محل" في الهند و "المدينة المحرمة" في الصين والتي كانت جزءا من الحاضرة الامبراطورية، فهو يوجه عميق التحية الى تلك الصروح التي تذكر ببراعة البناة الحقيقيين ولمساهمتهم المبدعة التي نضجت في لمحات، كانت حسب قوله "تجعل عينيه تترقرقان بالدموع، عرفانا بالجمال الذي تبوح به، و ثناء على الجهد الانساني المبذول فيها".
 وتجربته الموسيقية التي شهدهان الموقعان، في الصين والهند، وجدت حماسة من محبي فن ياني المتزايدين يوميا بعد اخر في مناطق عدة من الوطن العربي والعالم، وحفلت بلمحة جديدة، لم تكن مطروقة في استعراضات ياني الموسيقية، الا وهي استخدام الغناء بشكله المعاصر، واذا كانت الاصوات تحضر في موسيقى ياني من قبل، فهي دائما ضمن  اشكال (الاوبرا) او (المغناة Aria)، لكننا في عمله الجديد نجد اغنيتين: الاولى حملت عنوان "الحب هو كل شيء" بصوت المغنية فان جونسون التي راحت تغطي بصوتها العالي الطبقات على لحن احتفى بسحرية التوقيعات التي يبدعها (الغيتار الاسباني) وكلمات كانت تناشد مشاعر رقيقة من نوع :
"الامطار تسقط في قلبي
عميقا تجتاحني وتدفعني
الى الصمت"
والاغنية الاخرى Niki Nana او "ها نحن"، جاءت على لحن ايقاعي احتفالي يفقد خارج تقديمه على المسرح قوة تأثيره، فلا يمكن والحال هذا الا الاستماع اليه بحفاوة الجمهور، سيما ان الكلمات تؤكد على وحدة انسانية رغم اختلاف مشاهدها، وجاء اللحن ليعبر بتصويرية موفقة عن ملامح الاختلاف في التكوين البشري حيث: اختلاف اللغة باختلاف اللحن، واختلاف السحنات باختلاف نبرات الصوت وهو ما ادته ببراعة اليفريدا جيرالد.
واذا كانت عازفة الكمان شديدة الحيوية كارين بريجز علامة مهمة في الاوركسترا المصاحبة لياني في عروضه الموسيقية، فانها عزفت ببراعة على كمانها الساحر، كانها تطوف عبر انغامه على اطياف متعددة من المشاعر الانسانية.
وثمة (كمان) بارع اخر برفقة ياني، يعزف عليه قائد الاوركسترا ارمين اناسيان ولمسته بدت حاضرة في المقطوعة التي حملت عنوان المجموعة "ثناء" وكانت بمثابة عودة للفخامة الكلاسيكية في موسيقى ياني، وبرزت التهليلات البشرية التي تأتي من بعد كانها المعنى الذي ابتغاه ياني: "الثناء" على البناة الذين تركوا لنا مثل هذه الصروح الشامخة. وكانت الكمانات مجتمعة تاتي متتابعة كأنها تصف انتظام لجموع البشرية وهي تترك اثر بارعا كتاج محل.
 

"ثناء": تحية موسيقية معاصرة لبناة الحضارات الشرقية
 
وفي مقطوعة بعنوان "الشعاع الجنوبي" يلقي ياني تحية للمعنى في (الجنوب) حيث الحرارة والدفق الانساني وفكرة المعاناة التي تخصب الارواح والذهن. ولانه في الصين حيث لمسة من (جنوب)، يقدم ياني مقطوعة بعنوان "العندليب" في صياغة خاصة به، للنغم الصيني، وعبرها بوجه تحية لعمق انساني تمثل في حضارة الصين وعبقرية شواهدها.
 
انه اكثر من عمل موسيقي مجرد، انه احتفاء بالاثر الانساني ولمسة حانية على اثار تبدو منسية كالتي ياتي بها صوت الة "الدودوك" البدائية التي يستخدمها الارمن مثلما يستخدمها سكان جبال الانديز في امريكا الجنوبية، وعناية ياني بتلك (الاثار) المنسية جاءت عبر مقطوعته الشائقة Prelude . فيما نقلت المستمع مقطوعة اخرى بعنوان "المرتد Renegade" الى اجواء تصويرية بارعة. وفيها بحث في جوانية (المرتد) ومشاعره بين الخوف والحدة كما جسدتها كارين بريجز في كمانها الحاد والعنيف -كأنه النذير- يدخل في حوار مع الاوركسترا (الجماعة) وهي تدعوه (المرتد) للانضمام اليها، لكنه يبقى بعيدا ومنفصلا وان جاورها في اللحن .

 موسيقى ياني في عرض تلفزيوني: انغام تزهو بين الاثار الحاضرة للصين والهند

من تابع الامسية الموسيقية التي عرضتها تلفزيونات عربية وعالمية وابتهج واستمتع بموسيقى المؤلف (ياني) وعزف فرقته الضخمة، لاكتشف انها تتنوع بغير قطع حاد ما بين مكانين تاريخيين اثريين، كانا بمثابة الخلفية المسرحية لعرض موسيقى حي ومثير، الاول صيني بعمارته المميزة والثاني هو الاثر الهندي البارز (تاج محل).
و وفر التلفزيون الاردني للمرة الثالثة وبالتعاون مع الموزع الاقليمي لاعمال الفنان ياني في منطقة الشرق الاوس، طارق زعيتر، فرصة جميلة نادرة لمتابعة الطريقة المدهشة التي يبني فيه المؤلف اليوناني الاصل اعماله الموسيقية وتوزيعها بين مختلف الالات، التي تبدآ من (الكي بورد) الضخم الذي يعزف عليه ياني ولا تنتهي بتلك الالات النادرة والغريبة التي يعزف عليها فنانون من بلدان العالم المختلفة، من هنا لا تبدو اشارة ياني عن كون فرقته الموسيقية "اقرب الى التمثيل للامم المتحدة" غريبة، ففي العرض الذي شاهدناه استمعنا الى الات موسيقية مثل الغيتار الصغير لاهل بيرو، والناي الارمني (دودوك)، وآلة النفخ الخشبية الضخمة لسكان استراليا الاصليين، او الناي الصيني.
هذه العناية "الانثروبولوجية" بالاثار الحية الشعبية لاقوام في اطراف نائية من عالمنا، و(خارج) اضواء المعاصرة وضجيج احداثها، تعود اصلاً الى فكرة عميقة اهتم ياني باظهارها في الحفلة الموسيقية: "حيث كان يؤكد على قضية الانتماء للانسان بلا ادنى اهتمام لفكرة الهوية فقد قال: (لست يونانياً ولا اميركياً، انا انسان من عصرنا هذا، اجد عندي ما يشترك فيه البشر على هذه الارض، الحاجة للمشاعر والحب"، واشار وهو يخاطب الصينيين: "مع عالم يكاد يضيق بالزيادة الهائلة لبني البشر، تبدو الحاجة للحب هي الحل، في ان نجعل هذا العالم يتسع لنا".
وفي لمسة احترام وتقدير عالية للاثر الروحي، والعمق التاريخي والحضاري نجد ياني يقيم حفلته في حواضر اثارية شامخة، كأنه بذلك يرد الشكل المعاصر لموسيقاه الى سند تاريخي قوي ومؤثر، وبذلك يلخص بكثافة وسلاسلة فكرة الاتصال ما بين التاريخي والمعاصرة وتواصلهما، ووجدنا ياني يشيد بالتأثير الروحي الحي للحضارة الصينية، كما يفعل ذلك في (تاج محل) حين يذكر بالنفائس التي قدمها الجهد الجبار للمعماريين والفنانين الهنود الذين شادوا الصرح الجميل.
 
في المقطوعات الموسيقية استمعنا الى تنويعات وانفرادات لآلات موسيقية كان يشير اليها ياني والى عازفيها، مثنياً على جهدهم وبراعتهم، بالمقابل كانت هناك عناية لافتة بالاغنيات، لاعبر وجود اربع منشدات قديرات حسب، بل في افساح ياني المجال لاثنتين منهن في الغناء الانفرادي وتصدرهن المسرح، ليتحول الشكل الموسيقي الصرف عند ياني الى عرض موسيقي-غنائي حي، دعا غالبية الجمهور الى الاشتراك فيه انشاداً وغناء وبالتالي الرقص على لحنه الايقاعي.

* النص هو عبارة عن مقالتين نشرتا في صحيفة "الرأي" الاولى 16-11 والثانية 12-12-1997



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM