شمة في حدث فني رفيع اختتمت به المسابقة الدولية للعزف على العود

تاريخ النشر       28/11/2009 06:00 AM


تجول "بين النخيل" ليكتشف "ضوء الروح" في ثنايا "حلم مريم"
 
عمّان -علي عبد الامير
تحول الحفل الختامي للمسابقة الدولية الاولى (المجمع العربي للموسيقى) في العزف على الة العود، حدثا فنيا رفيعا شكّله الظهور البارز للفنان نصير شمة، مرة على عوده المنفرد واخرى الاشتراك مع اوركسترا المعهد الوطني للموسيقى بقيادة محمد عثمان صديق .
ففي الفقرة الاولى من الحفل التي تضمنت عزف نصير عدداً من مقطوعاته التي كتبها لالة العود واغلبها لم يسمعها جمهوره في الاردن من قبل، قدم مقطوعة "بين النخيل" ومع الافتتاح الاول تذهب الانغام بسامعها الى بيئتها التي لطالما احاطتها وحضنتها كمؤثرات وعي وانطلاق روح، الى بلاد النخيل، بلاد الرافدين، فثمة روحية النغم العراقي الذي نسجها نصير في قماشة قطعته المتوهجة والمجروحة في آن.
ومن بين عدة مقطوعات تشكل مشروعاً موسيقياً مهماً عند نصير هو مشروع قراءة اسماء الله الحسنى، قراءة موسيقية روحية صافية اختار نصير تقديم مقطوعة "الخلاّق" التي حفلت بغنى وعمق روحيين، فبدت الانغام الخافتة والاخرى الغليظة وكأنها تشير الى المدى الفسيح الذي تتجلى فيه عظمة الخالق، كما ان نصير عنى بتصوير لمجاهل النفس واغوارها، مثلما انتقل بمشاعرها من القلق والترقب الى فرح عميق، وهدوء ويقين ثابت، عبر اكتشاف تجليات الخالق سبحانه وتعالى.
ولانه ادخل مستمعيه الذين غصت بهم قاعة المسرح الرئيسي في المركز الثقافي الملكي في جو روحي عميق، عزف نصير شمه الذي يواصل عمله في القاهره عبر "بيت العود العربي" الذي اسسه بدار الاوبرا المصرية بالتعاون مع د رتيبة الحفني مديرة مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية السنوي، مقطوعة "لو كان لي جناح" التي حفلت بأميز ما عند نصير وفنه في العزف على العود، وهما: رشاقة العزف في مؤشر على تقدم (التكنيك) عنده وعذوبة انغامه في مؤشر على حضور (الروحية)، اضافة الى الاتقان في المولفة، كبناء موسيقي يذهب الى مهمة تعبيرية لاعلاقة لها بنظرة عابرة تحاول سجن الموسيقى باطار التسلية، وانما باعتبارها عملية خلق روحي محكمة.
واللافت في هذا الشأن (التأليف والعزف عند نصير شمه)، ان جدية عرضه الموسيقي لم تجعله غريباً ومعزولاً عن اذواق الناس فهو برغم فرادته وتميزه، الا ان موسيقاه ظلت مألوفة للمستمعين.
 
و وجد نصير في مقطوعته "من الذاكرة" فرصة لتقديم الفائزين بالجائزة الاولى بالمسابقة الدولية الاولى للعزف على العود التي كان نصير ذاته رئيساً للجنتها التحكيمية، وعزف مقطوعته التي تعد واحدة من اعماله الاولى الحافلة بنضارة روحية مشرقة بالاشتراك مع العازفة يسرى الذهبى (تونس) ونهاد السيد (مصر)، وهما بالاصل كانا وعلى مراحل مختلفة من تلاميذه ومريدي طريقته في العزف، فالذهبي كانت من تلاميذه خلال اقامته الفنية والتعليمية بتونس، والسيد من تلاميذه ومريديه في "بيت العود العربي" بالقاهرة حالياً وعضو مجموعة موسيقية عربية اسسها نصير حديثاً وحملت اسم "عيون".
وقدم نصير مقطوعته بالاشتراك مع العازفين وفق مؤشر يحسب له، فأختار ان تكون مشاركتهما (حوارية) ولها موقعها في العمل، وليس وجود العازفين مجرد مرافقة لعوده، فترك لعود (الذهبي) وعود (السيد) ان يخبرا السامعين بامكانيتهما، وازال من مشاركتهما في الحفل، طابع الثناء الاحتفالي وجعلهما مشاركة موسيقية واعية.
 
وبعد اربكات لامبرر لها افسد من خلالها بعض المولعين باجهزة (الموبايل) ورنينها الاخرق الجو داخل القاعة فيما كان العازف مستغرقاً في تقديم موسيقاه، قدم نصير "تنويعات على لحن" اكد من خلالها المستوى المتقدم من الخبرة والرقة ايضاً الذي بات عوده تمييز به، فأخذ المستمعين من عيون الغناء العراقي عبر اغنية "هذا موانصاف منك" الى الغناء العربي عبر نغم من اغنية "يا حلاوة الدنيا" وغيرهما، والمهم عند نصير في "التنويعات على لحن" لاترجمة المقاطع الغنائية التي تحفظها اذن السامع وتختزنها ذاكرته وروحه، وانما تعميقها موسيقياً عبر تنويعات يدخلها على البناء اللحني الاصلي، مما ينقل العمل الغنائي من ملامحه الثابتة المعروفة لدى المستمع الى اقتراحات شكل موسيقي قابل للتلون والتجدد، وهذه الاقتراحات يقدمها نصير اعتماداً على خبرة تجواله في فضاء الارتجال وحرية تعبيره الموسيقي.
وهذا ما شكل مدخلاً  مناسباً لمقطوعة "ضوء الروح" التي حفلت بارتجالات موسيقية لنصير، تناهت فيها انغام عراقية موروثة، كانت تومض ومضاً لـ(تضيء الروح) فعلاً، الروح التي اضناها الالم بعتمته وقسوته، (الروح) العراقية التي تعاني العزلة والقسوة، وليظل لها متاحاً (ضؤها) النابع من يقين ان الحياة لا يمكن ان تبقى اسيرة عتاة واشرار، سيرتهم الدم وايقاعهم الخراب.
ويخرجنا نصير من مدار موحش كالتي تعانيه الروح العراقية اليوم فضاء تعبيري واتصالي بين موقعين لافتين في الحضارة الانسانية عبر مقطوعته "من آشور الى اشبيلية"، ويوجز نصير الاشارة الى (آشور) عبر انغام عراقية موروثة، والى (اشبيلية) بطريقة العزف على العود كما عند عازفي الغتيار من الفلامنكو الاسبان، كأنه يختصر في مقطوعته حواراً هو حوار الانسانية وتشوفاتها في اعلاء الجمال والخير والحضارة.


نصير شمة:حين يصبح العود سيداً في مهمة تعبيرية عالية المستوى
   
ولم يتوقف العازف نصير شمه عند صورة العزف المنفود على العود، في الحفل الذي احياه بالمركز الثقافي الملكي، بل اظهر جانباً آخر من سعيه اعطاء العود، حضوراً موسيقياً في شكل مازال يثير تساؤلات لجهة (غربته) عن الموسيقى العربية وهو شكل العمل الموسيقي ضمن الاوركسترا السيمفوني، فعزف في الفقرة الثانية من الحفل مع اوركسترا المعهد الوطني للموسيقى (42) عازفاً بقيادة محمد عثمان صديق (مؤلف موسيقى وعازف بيانو وقائد الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية حتى عام 1994 حين استقر في الاردن).
ففي القسم الثاني من الحفل، تعرفنا على جانب من سعي نصير شمه في الاخذ بالعود كآلة وتعبير موسيقي الى مناطق حوار مع اشكال موسيقية معتمدة على نطاق واسع في العالم اليوم، ومنها الشكل الذي تقدمه الاوركسترا السيمفوني.
وقدم برفقة اوركسترا المعهد الوطني للموسيقى بقيادة محمد عثمان صديق، اعمالاً للعود والاوركسترا اكدت ناحيتين الاولى قدرة الموسيقى العربية على الخروج من الاطر الثابت لعروضها (العزف المنفرد او التخت) برغم اهميتها، والثانية قدرة العود على الخروج من نمطية حضوره برفقة الاوركسترا، تلك النمطية التي رسختها صورته برفقة الاوركسترا المصاحبة للمطرب في الحفلات الغنائية العربية، فازاحتها ليصبح العود سيداً في مهمة تعبيرية عالية المستوى.
في هذا الاتجاه عزف نصير برفقة الاوركسترا "حلم مريم" التي كتبها كمقطوعة للعود المنفرد، ثم "سماعي نهاوند" للمؤلف الموسيقي العربي الراحل روحي الخماش و "العصفور الطائر" للموسيقي العراقي الراحل منير بشير الذي يوجه له نصير هنا ما يشبه التحية، باعتباره احد اعلام الموسيقى في العراق اولاً، وعازف عود ومؤلف فريد في امكانياته ثانياً، واستاذاً لنصير خلال الدراسة وايام الرحلة الاولى مع العود وانغامه.
 
*متابعة نشرت في صحيفة "الرأي" ومجلة "الموسيقى العربية" 1999


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM