كتب: علي عبدالامير
يمنحنا الشريط الجديد للمطربة الرقيقة نجاة الصغيرة، لا متعة اكتشاف صوتها الناعم مجدداً بل فرصة التعرف الى الحان للراحل الكبير بليغ حمدي ظلت مخبوءة منذ رحيله اواسط الثمانينات، وجاء صوت نجاة الصغيرة ليكشف عن ملامحها التي تتصل بخبرة في تلحين الغناء، ظلت احدى ملامح الاغنية العربية الرصينة لفترة طويلة.
ومن الحان بليغ حمدي التي تضمنها الشريط، الاغنية التي منحت الشريط عنوانه "سهران يا قمر"، واذا كان اللحن يحمل رصانة في صياغته الموسيقية فانه اضاع جزءاً منها عبر التوزيع الموسيقي الذي ابتعد عن الاتقان الذي عرف به الموسيقى الشاب يحيى محمد الموجي، ويبدو ان حماسة الموجي لجعل اللحن قريباً من الاجيال الجديدة دفعته لان يضع توزيعاً قريباً لما هو سائد في الغناء العربي اليوم.
لحن "سهران يا قمر" اعتمد اظهار اشراقة العاطفة التي يجيد صوت نجاة التعبير الرقيق عنها، فيما كانت كلمات الشاعر رضا امين تصب في هذا الاتجاه، وهو ما جعل نجاة تغني باسترخاء، فيه رصانة الاداء وفيه طرواة وعذوبة لكنها تشير ايضاً الى نضج وخبرة، تمتد الى تلك السيرة التي دعمتها صاحبة "ايظن" و"ساكن قصادي" و"انا بعشق البحر"، خبرة التعامل مع الحان عبدالوهاب وبليغ حمدي وغيرهما من اعلام الموسيقى العربية.
واذا كانت (فيروز الاغنية المصرية)، حيث توصف نجاة الصغيرة هكذا لفرط شاعريتها ورقة ادائها، سبق لها ان غنت للرحيل والسفر، الكثير فانها تضيف لهذه الاغنيات، اغنية جديدة في شريط "سهران يا قمر" هي اغنية "في السفر" التي حملت كلمات شاعرا اختار تسمية "ابن النيل" وكانت نجاة في مقاطعها تلوح برقة العاشقات الحقيقيات لمن رحلوا عميقاً في المسافات البعيدة، ولكن كل ما تركوه من مشاعر تذكر بقوة حضورهم برغم الغياب، ومنحتنا الفرصة للتعرف على اغنية رقيقة في زمن صلد موحش، واذا تصح هذه الملاحظة (استعادية) فهي ليست كذلك حين تقارب لحن بليغ حمدي الذي جاء محكماً في اصوله الموسيقية العربية ومتطوراً بحيث انه كان قابلاً لتطويع الانتقالات في الذاٍة وقبول الاغنيات التي انتجتها فترة السبعينات وقبلها الستينات حيث عرفت نجاح شهرة واسعة.
نجاة الصغيرة: لوعة عاشقة ترقّ كأعذب موسيقى
واعتماداً على رصانة في البناء الموسيقي ميزت اغنية "في السفر" وعذوبة واداء متقن، تأتي نجاة الصغيرة لتغني "في غيابكم دبنا" اعتماداً على نص شعري كتبه محب حقيقي ومشتاق دونما ادعاءات هو الشاعر عبدالرحيم منصور، ولعب لحن بليغ حمدي على هذه الملامح وجال بعذوبته في مشاعر السفر والغياب ولوعة العشاق وشهقاتهم، وظلت تحترم هذه العواطف وترقى بها لما تحتويه من مكنونات انسانية عميقة، فكلما اشارت المفردات الى سفر، يترك اللحن اثراً كالشهقة وكلما صورت الرحيل او الغياب اطلقت المطربة نجاة الصغيرة لوعة ترق كأعذب موسيقى.
ومن مشاعر متأسية حزينة كالتي يورثها الغياب والرحيل، الى اخرى تضمنتها اغنية "سنة حلوة" ترق فيها كلمات الشاعر عبدالرحيم منصور، لتقدم لنا صورة عن عاشقة تسألها عيون الاخرين في عيدها في غياب حبيبها، فتمضي لتتحدث عن ذاتها العاشقة المأسورة بشجن حقيقي لا تغيره المفاجآت، وحين يتهدج صوت نجاة الصغيرة وهو يحتفل بهذه المعاني، فإنما يعتمد على نجاحه في ذلك على لحن بليغ حمدي الذي يفهم عناصر القوة فيه: ضعفه ورقته.
ومن احد الالحان المسموعة سابقاً (تضمنها فيلم سينمائي لنجاة الصغيرة جمعها مع الراحل رشدي اباظة) يختار منتجو الشريط اغنية "ليلة م الليالي" والتي كتبها الشاعر محمد حمزة الذي شكل مع بليغ حمدي ثنائياً ناجحاً في اواخر الستينات واوئل السبعينات قدم من قبل "جانا الهوا" مع عبدالحليم حافظ، وفي الاغنية كان صوت نجاة اكثر جرأة ووضوحاً مما هو الان، ولكنه ينطلق من ذات النبع: الرقة والعذوبة.
واللافت في "سهران يا قمر" وجود اغنية هي الوحيد التي لم يلحنها بليغ حمدي، الا وهي اغنية "اطمن" التي حملت توقيع صلاح الشرنوبي ملحناً، وفيها نتأكد من ان الشرنوبي ملحن على ستوى قدير لكنه يمنح الحانه بحسب استحقاق الاسماء والاصوات، فيتمهل كما فعل من قبل مع وردة الجزائرية والان مع نجاة الصغيرة ويبدو سريعاً وخفيفاً بل وسطحياً مع اسماء كنوال الزغبي، وعاصي الحلاني وبقية سماء الموجة السائدة في الغناء اليوم. وفي الاغنية تنجح نجاة الصغيرة في مواكبة مسارها الغنائي الخاص وان كان يحمل عناية موسيقية جديد عليها، كالتي تضمنها لحن الشرنوبي.
*متابعة نشرت في صحيفة "الرأي" 10/12/1999
|