قباني: وصفت قصائده المغناة بالنشيد القومي للعاشقين العرب

تاريخ النشر       28/11/2009 06:00 AM


نزار قباني مساحة من دفء الكلمات وعذوبتها في الاغنية العربية

عمّان- علي عبد الأمير
لا يجانب الصواب من القول ان "ظاهرة" نزار قباني ترسخت "جماهيرياً" بفضل اجنحة الغناء التي حلقت به بين ثنايا العاشقين على امتداد الارض العربية، فالاغنيات التي اعتمدت قصائد قباني، وبدأت منذ الستينيات مع اغنية "ايظن" التي برع الراحل محمد عبد الوهاب في صياغتها لحنياً وطبعتها برقة صوتها نجاة الصغيرة، غالباً ما حملت اسم نزار قباني شاعراً، ولكن هذه المرة اعتماداً على اصوات تعمق الاحساس بموسيقى الكلمات وما تنطوي عليه من مشاعر الشجن العاطفي الندي الذي يبدو اساسياً لطائفة العشاق، وساهمت موسيقى الاغنيات واصوات المغنين والمغنيات في تعميق صورة نزار قباني لا بوصفه شاعراً (مقروءاً) حسب بل شاعراً ساهمت الالحان الغنائية بتعزيز حضوره (مسموعاً) وان كان ذلك باصوات آخرين .
 
نقدياً يمكن تسمية ثلاث تجارب موسيقية ناضجة تعاملت بنجاح مع شعر نزار قباني، اولها تجربة الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، وثانيها تجربة الموسيقار محمد الموجي وثالثها تجربة المغني -الملحن كاظم الساهر، والى جانب هذه التجارب المحددة الملامح هناك لمسات تلحينية لموسيقيين وملحنين عرب اشتغلوا على قصيدة قباني منهم: جمال سلامة، محمد سلطان، حلمي بكر وغيرهم .
في تجربة محمد عبد الوهاب على شعر قباني، برزت بالذات في اغنيات "ايظن" و"متى ستعرف" و"اسألك الرحيلا" بصوت نجاة الصغيرة، ميول عبد الوهاب لاقامة بنية موسيقية موازية لتلك التي تتمتع بها مفردات القصائد، ولم تسلك موسيقى عبد الوهاب لخلق (ترجمة) حرفية للكلمات بالانغام، بل عبرت عنها بطريقة لافتة، واكثرت من اجل هذا الغرض في المقدمات الموسيقية والفواصل الطويلة بين مقطع الى اخر، الا ان التجربة الاكثر اهمية بالنسبة لعبد الوهاب في تلحين شعر نزار كانت مع اغنية او (النشيد الملتهب حماساً وفناً) "اصبح عندي الان بندقية" حين ابدعت ام كلثوم في نقل بنية موسيقية رفيعة مزج عبد الوهاب فيها بين القوة والاحساس الدرامي وبين العاطفة القوية ايضاً، ورغم اشارات القصيدة الحماسية المباشرة الا ان صوت ام كلثوم وبراعة الصوغ الموسيقي لعبد الوهاب جعلت من العمل قطعة فنية تحضر في كل وقت دون ان تسقط في فخ مناسبتها (الفاجعة) التي جاءت بعد هزيمة 5 حزيران 1967.
 

نزار قباني: مايزال فتياً مشاغباً ومحبوباً ولا يمل دروس الشوق والحب والجمال
 
وفي تجربة الموسيقار محمد الموجي على شعر نزار قباني يمكننا ان نلمح اصالة الموسيقى وحداثتها في آن، وهي ان ارتبطت باسم الراحل عبد الحليم حافظ وعبر اغنيتي "رسالة من تحت الماء" و"قارئة الفنجان" الا انها بدت وكأنها جاءت مختلفة عن قالب تلحين القصيدة العربية المعروف الذي يتصل بالتطريب الشرقي، فمالت الى تعبيرية مختلفة عن ذلك القالب بالذات في اغنية "رسالة من تحت الماء" التي غامر بها الموجي، لجهة ادخاله مساحات واسعة للآلات الموسيقية (الكهربائية) في تنفيذ اللحن، وبدا الموجي متمكناً في ادارة القصيدة بما يناسب موسيقاه لا العكس، فاتفق مع قباني على جملة من التغييرات والحذوف كي تناسب المقاطع المستلة من القصيدة الاصلية ما وصل اليها الموجي من صياغة موسيقية عالية.
 
واذا كانت حساسية عبد الوهاب والموجي في تلحين شعر قباني تحمل اشارات عصرهما، فان حساسية جديدة اكتسبتها هذه العملية (التلحين الموسيقي لشعر قباني) مع تجربة كاظم الساهر، الذي ظهر ميالاً لشكل الطرب وبنيته الموسيقية في الوقت نفسه، كسر الايقاع الرتيب لشكل لحن القصيدة وجعله يتسع لبعض التلوينات الايقاعية الجديدة، السريعة والراقصة احياناً التي بدت تماشي احساساً دمغ متلقي الغناء العربي في التسعينيات.
وجاءت اغنية "اني خيرتك" لترتفع بموسيقاها من لازمة بدت (يابسة) في شعر نزار قباني لفرط استخدامها "اني خيرتك فاختاري/ ما بين الموت على صدري/ او فوق دفاتر اشعار"، ولولا (الهبوط) في صوت كاظم حين يغني (لاتوجد منطقة وسطى) واسترخاء اللحن، لبز الساهر في تلك الاغنية اساطين بارعين في العمل على شكل القصيدة في الغناء، ولكنه تمكن من هذا فعلاً عبر رشاقة لحنه الغني بالايحاءات، الراقص تارة، الرومانسي البهيج، الشجي تارة اخرى: "زيديني عشقاً"  ومن ثم "في مدرسة الحب" والى جانب البناء الموسيقي المتقن في الاغنيتين، امكن التعرف على (روح) جديدة نهضت من قصائد نزار، الذي جاء فتياً مشاغباً ومحبوباً ولا يمل دروس الشوق والحب والجمال وهذا ما تكرر في عمل الساهر الجديد: "اشهد ان لا امرأة الا انت".
 
ومن التجارب الغنائية التي امكن للسامع العربي ان يقضي برفقتها وطرا لطيفاً مع قباني، هي تجربة الفنان د جمال سلامية عبر لحنيه لاغنيتين طبعتهما ماجدة الرومي بادائها الانيق: "كلمات" و"بيروت يا ست الدنيا" والتشكيل الدرامي في موسيقى (سلامة) لم يكن مناسباً لطواعية في شعر نزار قباني، بل جاءت الاغنيتان حادتين في شكلهما الموسيقي الذي اثقل نبضاً ناعماً في (شعريتهما).
الى ذلك تبدو تجربة حلمي بكر في قصيدة "اغضب" التي غنتها اصالة وتجربة محمد سلطان في قصيدة "رسالة من امرأة مجهولة" التي غنتها فايزة احمد، اقرب الى المرافقة الموسيقية لكلام موسيقي وملحن بالاساس.
وفي صدد تلحين قصيدة " اغضب" ثمة عمل مغدور للملحن العراقي البارع جعفر حسن، فالرجل صاغ لحنا مسبوكا للقصيدة، ادته مرهفة الصوت المطربة العراقية انوار عبد الوهاب قبل نحو عشرين عاما من تقديمها بصوت السورية اصالة وبحسب لحن حلمي بكر، ويبقى لحسن وعبد الوهاب ريادتهما في تلحين القصيدة وغنائها، وعن عملهما اللافت ذاك نستذكرهما باحترام هنا.
 
* لهذه المقالة قصة خاصة، ففي مساء الثلاثين من نيسان 1998، كنت محررا مناوبا في القسم الثقافي في صحيفة " الرأي"، وكان يديره الزميل موسى برهومة الذي يتولى اليوم رئاسة تحرير صحيفة "الغد" الاردنية، ومعروف عن برهومة حماسة للعمل لا تقاربها، باعترافه ، الا حماستي، وفيما كنا نستعد لاصدار الصفحة الثقافية بشكلها العادي، جاء خبر وفاة الشاعر نزار قباني في لندن،
وهو ما دفع الزميل برهومة الى اتخاذ قرار "مجنون" آخر: ان نصدر صفحة كاملة عن شاعر الياسمين الدمشقي!
وفي غضون خمس ساعات من الكتابة المتواصلة (من بينها المقالة اعلاه) امكننا ان نخرج بعد منتصف الليل انا وبرهومة، وثمة شجن يغمرنا من نوع خاص، شجن الوفاء لمن صاغ نشيد العاشقين وجعل الجمال درسا يوميا في حياتنا.  


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM