نزار قباني: مايزال فتياً مشاغباً ومحبوباً ولا يمل دروس الشوق والحب والجمال
وفي تجربة الموسيقار محمد الموجي على شعر نزار قباني يمكننا ان نلمح اصالة الموسيقى وحداثتها في آن، وهي ان ارتبطت باسم الراحل عبد الحليم حافظ وعبر اغنيتي "رسالة من تحت الماء" و"قارئة الفنجان" الا انها بدت وكأنها جاءت مختلفة عن قالب تلحين القصيدة العربية المعروف الذي يتصل بالتطريب الشرقي، فمالت الى تعبيرية مختلفة عن ذلك القالب بالذات في اغنية "رسالة من تحت الماء" التي غامر بها الموجي، لجهة ادخاله مساحات واسعة للآلات الموسيقية (الكهربائية) في تنفيذ اللحن، وبدا الموجي متمكناً في ادارة القصيدة بما يناسب موسيقاه لا العكس، فاتفق مع قباني على جملة من التغييرات والحذوف كي تناسب المقاطع المستلة من القصيدة الاصلية ما وصل اليها الموجي من صياغة موسيقية عالية.
واذا كانت حساسية عبد الوهاب والموجي في تلحين شعر قباني تحمل اشارات عصرهما، فان حساسية جديدة اكتسبتها هذه العملية (التلحين الموسيقي لشعر قباني) مع تجربة كاظم الساهر، الذي ظهر ميالاً لشكل الطرب وبنيته الموسيقية في الوقت نفسه، كسر الايقاع الرتيب لشكل لحن القصيدة وجعله يتسع لبعض التلوينات الايقاعية الجديدة، السريعة والراقصة احياناً التي بدت تماشي احساساً دمغ متلقي الغناء العربي في التسعينيات.
وجاءت اغنية "اني خيرتك" لترتفع بموسيقاها من لازمة بدت (يابسة) في شعر نزار قباني لفرط استخدامها "اني خيرتك فاختاري/ ما بين الموت على صدري/ او فوق دفاتر اشعار"، ولولا (الهبوط) في صوت كاظم حين يغني (لاتوجد منطقة وسطى) واسترخاء اللحن، لبز الساهر في تلك الاغنية اساطين بارعين في العمل على شكل القصيدة في الغناء، ولكنه تمكن من هذا فعلاً عبر رشاقة لحنه الغني بالايحاءات، الراقص تارة، الرومانسي البهيج، الشجي تارة اخرى: "زيديني عشقاً" ومن ثم "في مدرسة الحب" والى جانب البناء الموسيقي المتقن في الاغنيتين، امكن التعرف على (روح) جديدة نهضت من قصائد نزار، الذي جاء فتياً مشاغباً ومحبوباً ولا يمل دروس الشوق والحب والجمال وهذا ما تكرر في عمل الساهر الجديد: "اشهد ان لا امرأة الا انت".
ومن التجارب الغنائية التي امكن للسامع العربي ان يقضي برفقتها وطرا لطيفاً مع قباني، هي تجربة الفنان د جمال سلامية عبر لحنيه لاغنيتين طبعتهما ماجدة الرومي بادائها الانيق: "كلمات" و"بيروت يا ست الدنيا" والتشكيل الدرامي في موسيقى (سلامة) لم يكن مناسباً لطواعية في شعر نزار قباني، بل جاءت الاغنيتان حادتين في شكلهما الموسيقي الذي اثقل نبضاً ناعماً في (شعريتهما).
الى ذلك تبدو تجربة حلمي بكر في قصيدة "اغضب" التي غنتها اصالة وتجربة محمد سلطان في قصيدة "رسالة من امرأة مجهولة" التي غنتها فايزة احمد، اقرب الى المرافقة الموسيقية لكلام موسيقي وملحن بالاساس.
وفي صدد تلحين قصيدة " اغضب" ثمة عمل مغدور للملحن العراقي البارع جعفر حسن، فالرجل صاغ لحنا مسبوكا للقصيدة، ادته مرهفة الصوت المطربة العراقية انوار عبد الوهاب قبل نحو عشرين عاما من تقديمها بصوت السورية اصالة وبحسب لحن حلمي بكر، ويبقى لحسن وعبد الوهاب ريادتهما في تلحين القصيدة وغنائها، وعن عملهما اللافت ذاك نستذكرهما باحترام هنا.
* لهذه المقالة قصة خاصة، ففي مساء الثلاثين من نيسان 1998، كنت محررا مناوبا في القسم الثقافي في صحيفة " الرأي"، وكان يديره الزميل موسى برهومة الذي يتولى اليوم رئاسة تحرير صحيفة "الغد" الاردنية، ومعروف عن برهومة حماسة للعمل لا تقاربها، باعترافه ، الا حماستي، وفيما كنا نستعد لاصدار الصفحة الثقافية بشكلها العادي، جاء خبر وفاة الشاعر نزار قباني في لندن،
وهو ما دفع الزميل برهومة الى اتخاذ قرار "مجنون" آخر: ان نصدر صفحة كاملة عن شاعر الياسمين الدمشقي!
وفي غضون خمس ساعات من الكتابة المتواصلة (من بينها المقالة اعلاه) امكننا ان نخرج بعد منتصف الليل انا وبرهومة، وثمة شجن يغمرنا من نوع خاص، شجن الوفاء لمن صاغ نشيد العاشقين وجعل الجمال درسا يوميا في حياتنا.