عن 67 عاماً وفي مكان اخرى من المنفى العراقي الفنان الكبير منير بشير يرحل تاركاً معزوفة الشجن العميق…
عمّان-علي عبد الأمير
برحيله (ضمن مسلسل الموت العراقي في المنافي والمستمرة حلقاته بنجاح لافت) تكون اللحنية العراقية الراقية والموسيقى العراقية ككل قد فقدت معلمها البارز، فقد كان منير بشير مستنداً الى ذخيرة تنبع من روحية الامكنة العراقية ورحابتها الاثيرية.
وبرحيله مساء امس الاول 28/9/1997 في هنغاريا تكون الثقافية العراقية قد فقدت احد رموزها فالراحل منير بشير كان سفيراً من طراز رفيع لانجازات تلك الثقافة ومؤشرات حضورها. وبفقده ايضا خسرت الموسيقى العربية الاصيلة احد اعلامها في وقت عسير تمر به حيث تتعرض لتهديد جدي من قبل اتجاهات هجينة تساندها اغلب وسائل الاعلام، والراحل بشير عمل بدأب وجهد من اجل الابقاء على جذوة الموسيقي العربية من خلال عمله كأمين عام للمجمع العربي للموسيقى (جامعة الدول العربية) وحوّل تظاهرات المجمع من مناسبات بروتوكولية الى احداث فنية بارزة كما في اجتماعاته التي شهدتها عمّان في السنوات الثلاث الماضية.
في اصابعه الحاذقة كان يختزن طاقة تعبيرية كعازف بارغ على (العود) وكل التجسيدات في المشاعر لا تتطلب من منير بشير الا تلوينات من رشاقة انامله وطريقة ضربها الموجزة على الاوتار عنده لااستعراضات ولا مبالغة فيما يدعي بالتكنيك من العزف.
الى ذلك كتب برنارد هولاند (الناقد الموسيقي لصحيفة نيويورك تايمز): ان "منير بشير والته الموسيقية العود، يمتازان بحرية العزف الارتجالي، غير ان من الواضح انه كان يعزف ضمن قواعد نموذجية فالحدود الشخصية تمنح الموسيقى سمة السكون، ان كل الذين استمعوا الى عود منير بشير يستطيعون ان يشعروا كما اعتقد بذلك المزيج من الغرابة والالفة الذي تميز به عزف الاستاذ منير بشير الرائع".
ويعد الفنان بشير معلماً اكبر في العزف على آلة العود وعلامة في فن المقام والارتجال، والمقامات كما يؤديها منير بشير تأملية تنزع الى التصوف والزهد وتعكس فكرة وفلسفته وهما ينبعان من عمق وعيه للتراث الروحي العربي، الموسيقي والغنائي بخاصة وهو بارع في تطويع البنية النموذجية للمقام وخلق اجواء مشحونة بالعواطف يحس بها المستمع اليه عربياً كان ام غير عربي، وآلة العود خاصته، من صنع (محمد فاضل، العواد الشهير في بغداد ووفقاً لتعليمات منير بشير نفسه)، مشدودة اليها خمسة اوتار مزدوجة ووتر سادس غليظ فوقها.
منير بشير:"طاقة في التعبير تعجب كيف لهذه الآلة (العود) ان تختزنها"
وكان يراعي في تأليف مقطوعاته اصالة مرجعياتها الموسيقية واللحنية، ناهيك عن اسلوب العزف المتقن في حال تقديمها على آلته فمقطوعته "جولة مع العود" الطويلة في وقتها نسبياً (اكثر من 15 دقيقة) تحفل بتنويع مقامي حيث: (مقام الجهاركاه)، (مقام حجاز كاركرد)، (حجاز كار)، (اوج) و(مقام المخالف)، وما يميز تلك المقطوعة هو الروحية التي اغتنت بها، ومهارات العزف تنسجم مع التصوير في تأليف القطعة ومعاً ينتجان (العزف والتصوير) طاقة في التعبير تعجب كيف لهذه الآلة (العود) ان تختزنها؟
فهناك (تجريدات) على ملامح الشحن والندم والحنين، ثمة البوح الجميل وثمة الفرح الطليق ايضاً، وكي لا تذهب بعيداً في تلك التجريدات تعود بك ضربات منير بشير الى انغام شبه معتادة بالنسبة لك كي تصبح محطات ربط بين اجزاء اللحن الكلي، واذا كان التنويع المقاس والارتجال على جوانبه منيرة عند فن منير بشير فهو في مقطوعة "جولة مع العود" قدم درساً في هذا الشأن، يظل قادراً على التأثير مع كل مرة تسمع فيها المقطوعة وانامل بشير تبدعها.
كان الراحل منير بشير علامة مميزة في العزف على العود حسب المدرسة العراقية، وفي مقطوعاته تمثل حقيقي لاجمل ما في تلك المدرسة من ملامح في العزف حيث: الزخرفة والرشاقة والطراوة والميل الى الغنائية والاتصال ما بين الموسيقى الشرقية وروحيتها والموسيقى العربية.
والفنان الكبير الراحل منير بشير من مواليد مدينة الموصل العريقة (1930) في شمال العراق، وهو ينحدر من عائلة موسيقية عراقية فشقيقه الراحل جميل بشير كان احد اعمدة التحديث الموسيقى والغناء بالعراق وشقيقه الاخر فكري بشير عازف كمان بارز ايضاً، وقد التحق منير بشير في سن مبكرة بمعهد الفنون الجميلة في بغداد ودرس الموسيقى وتتلمذ على ايدي المعلم الفذ الشريف محي الدين حيدر الذي درسه العزف على آلتي (العود) و(التشيلو) واثر فيه فنياً وثقافياً وتربوياً.
وتابع الفنان بشير دراساته الموسيقية العليا في اكاديمية (فرانزليست) في بودابست بهنغاريا وحصل على الدكتوراه من قسم الفنون التراثية والشعبية باكاديمية العلوم، باشراف المؤلف الهنغاري سلطان كوداي.
قدم منير بشير منذ عام 1954 حفلات موسيقية في اكثر من خمسين دولة اسيوية واوروبية وامريكية (شمالية وجنوبية)، وهو حاصل على العديد من الالقاب الفخرية والاوسمية من ابرزها مفتاح مدينة باريس من الرئيس الفرنسي جاك شيراك ووسام الاستقلال من العاهل الاردني الملك الحسين .
وقد اقام الفنان الراحل منذ ثلاث سنوات تقريباً في عمّان وكان اخر ظهور فني له فيها في شهر رمضان الماضي حيث قدمه المعهد الوطني للموسيقى -مؤسسة نور الحسين في حفلة موسيقية حضرها جمهور غفير، وكان قد شاركه العزف في حفل سابق (على هامش اجتماع المجمع العربي للموسيقى في عمان 1996) ولده العازف الماهر عمر والذي اختزن في غرفة روحية عمه جميل وطلاقة ومهارة الاب منير.
*متابعة نشرت في صحيفة "الحياة" ولاحقا في "الرأي"– 30/9/1997 |