معاول الرداءة تنهال على رموز عاطفية جميلة

تاريخ النشر       27/11/2009 06:00 AM


"تجنن يافريد" لحميد الشاعري:
فن تحويل رمز الغناء عاطفي الى "مسخرة"
 
كتب: علي عبد الامير
من علامات الانحدار في النتاج الروحي العربي وعلى جميع المستويات ما يحصل في عالم الغناء والموسيقى وفي اكثر من عاصمة عربية اليوم.
فاذا كان حميد الشاعري يقدم نفسه مؤديا للغناء تارة، وموزعا وملحنا موسيقيا تارة اخرى، فانه في شريط حمل عنوان "تجنن يافريد" يقدم نفسه كصاحب طريقة نادرة في سرعة تحويل رمز غنائي عاطفي كبير مثل فريد الاطرش الى "مسخرة" حقيقية.
وبتحويل حميد الشاعري اغنيات الاطرش الى مجرد ايقاع راقص رخيص ودائما تحت شعار "تحديث الموروث الغنائي العربي" كما يحلو لاساطين الموجة الرديئة ان يغفلوا اساءاتهم لذلك الموروث، فانه يكشف عن مدى النفوذ الذي وصلت اليه الرداءة في الغناء العربي وقدرتها على تسويق نتاجاتها من خلال منافذ بدت متحكمة فيها تماما ومن ضمنها الاعلام طبعا.
واغنيات فريد الاطرش ليست مجرد استذكارات لازمنة ماضية، ازمنة بهجة حقيقية ورقة في التعبير عن المشاعر، فحين نستمع اليها نشعر بقدرة لافتة، هي قدرة الموسيقى المبتكر الذي كان ينفتح على الحان غير عربية، ولكن بثقة العازف بجذوره الموسيقية والنغمية، بهذا الراحل فريد الاطرش "اصلا" حتى وان ذهب الى مقاربة ايقاعية لاتعرفها اللحنية العربية كما في اغنية "قلبي ومفتاحه" التي كانت احدى الاغنيات التي "مسخرها" حميد الشاعري اضافة الى "تامر على الراس" و "يابو ضحكو جنان" و "فوق عصنك" و "حبينا" و "انا وانت وبس " و "لاكتب عاوراق الشجر" و "حبايبي ياغايبين".
 
وفي جمع هذه الاغنيات التي ربطها الموزع الموسيقي حميد الشاعري ببعض على طريقة NON-STOP  الشائعة في الاشرطة الغنائية الغربية وادخل الحان الاغنيات بعضها بالبعض الاخر، لايجد السامع غير مجموعة منشدة من الفتية والفتيات باصوات لا روحية فيها، فيما الحان الراحل فريد الاطرش تكاد تختفي-لولا ماتثيره من بعض ذكريات – لتصبح مجموعة ايقاعات سطحية راقصة.
واذا كان هناك من "حسن تدبير" لحميد الشاعري في (عملية اغتياله) الموسيقية لاغنيات فريد الاطرش، فذلك انه اختار مايمكنه تسميته بالاغنيات ذات الاحساس البهيج من بين تراث الاطرش الذي عرف (بسوداوية) اغنياته، لذا بدت الايقاعات الراقصة متوافقة مع بهجة الالحان، ولكنها ايقاعات سطحية مبرمجة على الات جامدة لا حياة فيها، ثم تلقينها برنامجا (كمبيوتريا) واحد يوحد الايقاع على طول الاغنيات الثماني التي ضمها الشريط.
 

الشاعري حين "يمسخر" عاطفية الاطرش
 
ترى اهذه هي صورة فريد الاطرش التي يراها حميد الشاعري؟ صورة سطحية وفارغة كهذه ظهرت جلية الملامح في شريط "تجنن يافريد" ترى اهكذا يمكن لاسم من موسيقي و (مغني) ووقتنا العربي الراهن ان يرد التحية لاسم رائد في موسيقانا العربية كفريد الاطرش؟
واذا كان المقصود – اذا افترضنا حسن النية – تقديم فريد الاطرش للجمهور الشاب فهل هذه هي الطريقة التي نعرف بها رموزنا الموسيقة (ان تظهرهم مثيرين للسخرية وبطريقة تبدو فيها الموسيقى المصاحبة لبعض الاعلانات التجارية اكثر رصانة مما ظهرت عليه اغنياتهم)‍ ؟‍‍‍‍‍‍‍
واذا كان فريد الشاعري منح نفسه الحق في ان  "يمسخر" فريج الاطرش بهذه الطريقة فمن يمنع مغنية من الدرجة العاشرة ان تعيد ودائما على طريقة تقريب الموروث الغنائي لاذواق الشباب، بتقديم اغنيات ام كلثوم، واغنيات فيروز ولاحقا عبد الحليم حافظ ؟
بل ان سؤالا يفرض نفسه : اذا لم يتبق للمواطن العربي غير الذاكرة يهرب بها من ضغط الرداءة التي يجيدها الراهن صنعها له، فهل هناك على مايبدو لنسف حتى هذه الذاكرة – الملجأ الروحي الامن بعض الاحيان؟‍‍

....وفي شريط "بحبك يافيروز"**
معاول الرداءة تنهال بضرباتها على رمز جميل اخر

وبعد اشهر على شريطه "تجنن يافريد" الذي (مسخر) فيه اغنيات والحان الموسيقار الراحل فريد الاطرش، ينهال حميد الشاعري بمعاول الرداءة على رمز جميل اخر في شريط جديد صدر قبل ايام وحمل عنوان "بحبل يافيروز" وفيه تسطيح ونقل لاثار رمز حميم تمثله فيروز الى مستوى من الغثاثة الايقاعية الراقصة.
وهذا الاسلوب لا يكلف الشاعري غير مزج اللحن الاصلي بمؤثرات اليكترونية ايقاعية متوفرة حد الابتذال في اجهزة الـ(Sequencer) واضافة خلفية غنائية من كورس نسائي ورجالي يغني بطريقة لا تقل تسطحيا عن تسطيح الموسيقى.
وفي هذا الصدد يظهر سؤال لا بد من مواجهته وهو: هل استاذن الشاعري صاحبة الاغنيات وورثة الحانها؟ او الرحابنة ومنهم الذين اخذ عنهم الشاعري الالحان منصور وزياد الرحباني، لايمكن ان لا يمكن ان يقبلوا بوضاعة موسيقية كهذه تصاحب اثارهم الغنائية رفيعة المستوى وان بدر انهم وافقوا على هذه (المسخرة) فان ذلك يعني الخراب بعينه!
 

الشاعري انهال بمعاوله الصاخبة على الاثر الحميم لفيروز
 
وكانت بداية معاول حميد الشاعري في مهمتها تهديم اثار ما زالت قادرة على جذب الارواح مع اعغنية "طير الوروار" ليحيلها من لمسة منيرة بوهج فيروز وخفة صوتها ورفعة مشاعرها الى تنويعات راقصة لا تخلو من ابتذال.
وبالرغم من محاولة الشاعري ايجاد مقاربة مع اللحن الاصلي لأغنية "سألوني الناس" التي تعد واحدة من اولى الاغنيات التي وضعها زياد الرحباني لقيروز وتضمنتها المسرحية الغنائية "المحطة" عام 1972 الا ان السذاجة الصوتيه للكورس ابعدت مسعى الشاعري الذي حاول ان يبدو (معقولا)  وهو ماكرره في اغنية "شط اسكندرية" وحين فشل الكورس الرجالي بغنائه "سألوني الناس" نجحت صاحبة الصوت النسائي الرقيق في اداء اغنية "شط اسكندرية" غير ان المرافقة الموسيقية (الخفيفة) جدا بدات مناقضة لسعي المحافظة نوما ما على الاصل وهو ماحاولته المغنية الشابة.
غير ان الرداءة تعاود نشاط معاولها ثانية وبقوة مع اغنية "حبيتك" التي بدت وكانها من تلك التي اعتدنا سماعها من ايقاعات في باصا النقل والمقاهي الشعبية ومطاعم الارصفة الرخيصة، وليس هذا الحال ببعيد عن "سألتك حبيبي" التي غناها صوت "خنثوي" لا هو بصوت المرأة، ولا هو بصوت الرجل، ما جعل الاغنية فياضة الرقة والجمال، تنحدر الى مصاف الابتذال الصريح، وتكرر المشهد مع اغنية "قمرة ياقمرة" وضاعت تلويحات البراءة التي جسدتها فيروز بين اصوات الكورس الرجالي والايقاعات الاليكترونية الراقصة.
واذا كانت هناك من اغنية عربية جسدت الشوق والمشاعر المخبوءة التي تحملها (المراسيل) فلا بد ان تذكر اغنية "مرسال المراسيل" لفيروز التي احالها حميد الشاعري الى اغنية فوضى ليست بعيدة عنها فوضة الشباب الذاهبين في باص رحلة مدرسية الى مكان بعيد ولا يجدون سلوى لهم غير مقاربة الغناء على طريقة الصراخ. وفي الاتجاه ذاته نصل مع الشاعري في اغنية "كتبنا" ليختم بذلك (محبته) لفيروز بعد ان نشطت معاوله في تهديم الكثير من ملامح الرقة التي تختزنها لهذا الرمز الجميل!
 
* متابعة الشاعري والاطرش نشرت في "الرأي" 12-3-1999
** متابعة الشاعري وفيروز نشرت في "الرأي" العام ذاته 


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM