انتباه ياشباب ويا اجيال جديدة
فيروز الستينية تغني: "ضاق خلقي ياصبي ... من هالجو العصبي"!
علي عبد الامير
تؤكد سيدة الغناء العربي الرقيق، المطربة فيروز، انها كفكرة وطنها الجميل، عصية على التدمير والنسيان والاندثار، رغم حراب كثيرة وايقاعات دمار لا تهدأ، ومثل هذا التاكيد تعلنه موثقا باغنيات ذات اختلاق تحملها اسطوانتها الجديدة "مش كاين هيك تكون" التي توزعتها باتجاهين: الاول جاء ضمن قالب القصيدة وحمل توقيع الملحن السوري محمد محسن في اربع اغنيات، والثاني ضمن شكل غنائي يجمع الايقاع اليومي المضطرب ولكن وفق صياغة موسيقية شرقية متقنة، وهو شكل درج على ابداعه زياد الرحباني .
ويحمل هذا التوزيع بين شكلين غنائيين قدرة فيروز على اثبات براعة في تجربة ما زالت تقترح الجديد, وكآنها تقول: ان قدرتها على مقاربة الحان السوري محمد محسن الذي سبق له ان قدم لها لحنا متقنا وجميلا في اغنية "سيد الهوى" خلال الستينات، وبراعتها في اداء اغنيات هي في حقيقتها تحاكي "الموشحات الاندلسية" لاتعني انقطاعها عن مقاربة اشكال لحنية جديدة بل وتجارب غنائية مختلفة و (غير شكل) هي التي يقترحها زياد الرحباني الذي كان نوه بهذا الغناء المختلف منذ ان قدم لوالدته اغنيات مثل "خليك بالبيت" 1987 ولاحقا مجموعة "كيفك انت" 1991.
براعة فيروزية جديدة اذن هي ما تكشف عنها المجموعة الغنائية الجديدة الصادرة في بيروت وائل الاسبوع والتي انتشرت بمستوى يليق بالمطربة الكبيرة، وهي تبدا باغنية كانت فيروز شنفت بها اسماع جمهورها الاردني حين غنت في جامعة عمان الاهلية في اواخر شهر كانون الثاني الماضي وهي اغنية "سلملي عليه" التي كتبها وصاغ الحانها زياد الرحباني ودائما ضمن ما اشرنا اليه من مفارقة: نص غنائي معاصر وقالب موسيقي لحني عتيق (ان صح الوصف).
في الاغنية طرب حقيقي لجهة التكوين الموسيقي بينما يكاد النص يخلو من ملمح (شعري غنائي) اعتادته الذائقة حتى التي تربت على الاثر الفيروزي بحسب طابعه الرحباني (عاصي منصور الرحباني).
وعلى هذا المنوال تاتي اغنية "ضاق خلقي" التي نجد في نصها الغنائي (نزقا) لامراة مازومة ومضطربة من وقتنا على وقغ لحن لا يتنصل من شرقيته الاصلية رغم توزيعه الموسيقي المعاصر: "ضاق خلقي يا صبي.. من هالجو العصبي". وتتهادى رغم هذا الجو المضطرب و (العصبي) الذي ترسمه مفردات "ضاق خلقي" و "شكوك" و "كذب"، علامات محبة ندية توقعها فيروز بدفء صوتها وعنايتها باظهار المشاعر المجروحة بخاصة، فبتكون بذلك هي وهي الستينية (امد الله بعمرها) صاحبة بيان معاصر عن اشكال البوح عن العاطفة والمحبة وحسناوات يملأن ارواحنا بمشاعر هي في حقيقتها اقرب الى تجسيد العجز والياس والقنوط!
وانسجاما مع هذا النبض (المضطرب) وجو الحب المازوم، تاتي اغنية "اشتقتلك" ومازاد في (عصريتها) هنا هو ايقاعها السريع ولحنها المتقطع الانفاس الذي بدا منسجما مع كلمات مثل: "واضح انك ناسيني ومش محتاج تواسيني.. طيب انا عم قلك.. "اشتقتلك" او " هيدي الشجرة العتيقة يلي ماكنا نطيقا حبيتا واشتقتلا واشتقتلك".
اسطوانة "مش كاين هيك تكون": فيروز المتجددة
وحين نصل الى اغنية "مش كاين هيك تكون" نعود الى المفارقة التي نوهنا عنها كميزة في اغنية زياد الرحباني: لحن شرقي اصيل ونص غنائي متوتر معاصر خارج على السياق التقليدي غير ان الاغنية تحمل مؤشرا اخر قد ياخذ شكل التساؤل: كيف يمكن لفيروز المنشدة البهية لاجواء من نوع: نحنا والقمر جيران، وجسر القمر، والميادين والقناطر الغافية على الجداول ان تغني: " كان غير شكل.. الزيتون، كان غير شكل.. الصابون، حتى انت ياحبيبي مش كان هيك تكون "او" كان اوسع هالصالون.. "كان اشرح هالبلكون، وطبعا انت ياحبيبي حبك كان اد الكون"؟!
ازاء هذا التساؤل (الصاخب) لا بد من لحظة هدوء وهي ماتوفرها مقطوعة موسيقية بعنوان "وقمح" وهو ما اعتاد زياد الرحباني ان يفعله مع اي شرط غنائي يقدمه لفيروز، كانه بذلك يؤكد انه يعلي الموسيقى على الغناء (بوصفه كلاما وشعرا).
نحن نكاد في هذه السطور نقرا من شريط فيروز الجديد، بعض ملامح ماقدمه زياد الرحباني، املين ان نوفر في قراءة لاحقة، قراءة اعمق لصوت فيروز وقيمته الغنائية وكذلك لالحان رصينة قدمها محمد محسن.
*متابعة نقدية نشرت في الملحق الثقافي لصحيفة "الرأي"28/5/1999 |