علي عبد الله: انقاذ ما يمكن انقاذه؟
خلو الساحة الموسيقية والغنائية في العراق من فرقة رصينة بعد افول نجم "فرقة الانشاد العراقية" التي شكلها اوائل السبعينات الملحن الراحل روحي الخماش، دفع القائمين على الحياة الموسيقية الى تشكيل الفرقة الجديدة لتكون علامة في الحفاظ على الموروث الغنائي والموسيقي العراقي باشكاله الريفية والبدوية والمدينية ( الغناء الحديث والمقام العراقي )، كما ان عدم نضوج تجارب لفرق غنائية وموسيقية : " فرقة بابل" و "فرقة مغني الريف" ادى على ما يبدو في ايجاد فرقة كبيرة تتوفر على فهم موسيقي وغنائي اعمق وعلى عناصر لها من الخبرات والموهبة ما يمكنه الاحاطة بالوان الموروث العراقي.
الى ذلك اعيد احياء ( اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى ) التي كانت تأسست عام 1971 وانتهى دورها فعليا بعد مغادرة رئيسها الفنان منير بشير للبلاد عام 1991، وجاء في اسباب اعادة تشكيلها انها ستتولى المهمة الاستشارية للمؤسسات الموسيقية وتوجيه الانشطة والتجارب والتظاهرات فضلا عن التعاون مع المؤسسات الموسيقية العربية والدولية. اللجنة ضمت في تشكيلها الجديد، الفنان علي عبد الله رئيسا والدكتور فتح الله احمد (الملحن والموزع الموسيقي لابرز اغنيات كاظم الساهر ) والفنان الرائد حسين قدوري ( صاحب التجربة البارزة في ميدان غناء الاطفال والباحث الموسيقي الرصين )، والعازف المعروف غانم حداد والملحن والمطرب الرائد عباس جميل والملحن طالب القره غولي والملحن محسن فرحان والموزع الموسيقي خليل ابراهيم.
وبالرغم من بروز جيل جديد من الموسيقيين، امكن له سد النقص في "الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية" التي تأسست عام 1948 وكانت رائدة بين مثيلاتها العربيات، إلا ان هجرة ابرز عازفيها الى خارج البلاد ظلت واحدة من التحديات التي جعلت الفرقة تخرج عن تأثيرها الفني الناضج في الحياة الثقافية العراقية، فقائد الفرقة السابق الفنان محمد عثمان صديق ومجموعة من عازفيها يعملون حاليا في "اوركسترا المعهد الوطني الاردني للموسيقى" كما ان عددا منهم توزعوا دول الشتات العراقي في الولايات المتحدة واستراليا وهولندا، بينما عازفون اوائل فيها اليوم وعلى مختلف الآلات في الفرقة يتقاضون اجورا شهرية لا تتجاوز ما قيمته عشرة دولارات، تبدو اشبه بالنكتة السوداء ازاء خبراتهم وجهودهم التي تواصلت منذ اكثر من ثلاثين عاما.
عازفو الفرقة الموسيقية في "المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون " هاجروا هم ايضا الى دولة الامارات العربية المتحدة وقسم آخر منهم انتظم في الفرقة الموسيقية المصاحبة للمطرب كاظم الساهر، وغياب كهذا جعل الاعمال الغنائية العراقية المعاصرة تعتمد في تنفيذ الحانها على تقنيات "الكيبورد" و "السيكوينسر " ما أثّر في تدني مستوياتها، ولتبدو الاغنية العراقية في اسوأ مراحلها فنيا.
"انحطاط الاغنية العراقية واسفافها"
وظهر جيل غنائي جديد في العراق بعد حرب الخليج الثانية 1991 وفيه من التدهور الذوقي ما انعكس في الحياة العراقية التي صارت نهبا لتدهور المستويات الاجتماعية والاقتصادية بسبب الحروب والحصار.
وعن ابرز اسماء هذا الجيل الغنائي يقول الناقد الموسيقي العراقي المعروف عادل الهاشمي، انها اسهمت في "تشكيل مرحلة انحطاط الاغنية العراقية واسفافها"، لافتا في تصريحات نقلتها عنه صحيفة "نبض الشباب" الاسبوعية الصادرة في بغداد الى ظاهرة انحسار الاصوات الغنائية العراقية، فاعتبر ذلك عائدا الى "تحول الغناء من التعبير الى النداء الغريزي الفاضح" متناسيا العامل الحاسم في الظاهرة، الا وهو انسحاب الدور الانساني الحي للمرأة العراقية، ففي الاربعينات والخمسينات من القرن الفائت كانت الاصوات النسائية العراقية تعادل الاصوات الرجالية ان لم تتفوق عليها كما ونوعا في مؤشر على انفتاح اجتماعي وفكري في العراق لم يعد قائما اليوم.
وعن موجة اعادة اغنيات ام كلثوم، بحسب صوت المطرب قاسم السلطان يقول الناقد الهاشمي ان هذا "تعبير عن افلاس الاصوات الداخلة عنوة الى الغناء العراقي وعجزها".
كما ان من بين ابرز المغنين في الغناء العراقي اليوم هناك هيثم يوسف الذي يعتبره الهاشمي صاحب صوت "من الاصوات الصغيرة والفقيرة، وهو صوت هوائي لا يمكن ان يكون صوتا غنائيا لفقدانه التأهيل العلمي والعملي"، وصوت المطرب حاتم العراقي بحسب آراء الهاشمي "صوت غجري يفتقر الى عنصر البلاغة الادائية وسلامة الالقاء الغنائي لان التركيبة اللسانية عنده ليست مهذبة"، وصوت حبيب علي "صوت نسائي يفتقد الى رصانة الاداء"، والمطرب كريم منصور الذي عرف ببعض الاغنيات الجيدة "قتله الغرور لكنه يمتلك صوتا جيدا، وفي ادائه يتعالى على الجمهور ولا يكون جزءا منه ".
هذه الحال في الغناء العراقي تأتي بعد ان نالت الشيخوخة الجسدية والفكرية من اصوات حسين نعمة وياس خضر وفاضل عواد ( المهاجر الى ليبيا استاذا للادب العربي في احدى جامعاتها )، وبعد محاولات للتجديد لم تظهر تأثيراتها جلية عند سعدون جابر، ونمطية قاتلة في اداء حميد منصور، وبعد تحول رضا الخياط الى عروض غنائية لاهية لا احتراما واضحا لجدية الغناء وتعبيريته فيها، وخفوت اغلب الاسماء التي واكبت ظهور المطرب كاظم الساهر ومن بينها : احمد نعمة وكريم محمد، إلا ان علامتين طيبتين في الغناء العراقي ما تزالان قادرتين على تقديم اغنيات بمستوى فني لافت، وهما المطرب محمود انور والمطرب مهند محسن، والاخير يتوفر اضافة الى موهبة الاداء المفعم بروحية صادقة، على موهبة التلحين مستعيدا بثقة خطوات المطرب – الملحن كاظم الساهر ولكن بشخصية تميزه.
* متابعة نشرت في صحيفة " الحياة" اللندنية العام 2000.